د. محمد عبدالله العوين
في هذا الوقت الحرج من زمن التواصل المفتوح مع العالم، لم تزل ثمة فرصة لأن يجتمع عدد قليل أو كثير من الناس ليروا فيلماً سينمائياً، في زمن يتواصل فيه الفرد مع كل البشر؛ ولكنه يعيش في عزلة أيضاً عن كل البشر، ووظيفة السينما هنا أن تعيد إحياء مشاعر الجماعة والقضاء على الفردية والعزلة.
في زمن لم يَعُد ممكناً فيه السيطرة على ما يمكن أن يصل إلى عيون وقلوب الناشئة، ولا يمكن بحال التدخل في اختياراتهم لما يرون أو يقرؤون ؛ نجد أنّ من الخير إبعادهم عن الاختيار الفردي المفتوح وغير الموجَّه ولا المرشد إلى اختيار جماعي مدروس وموجّه ومراقَب.
نحن في حاجة إلى قاعات عرض سينمائي وتجاوز حالة التردد والإجابة على سؤال: تناسب أو لا تناسب؛ وكأننا نبدأ من حيث انتهى العالم، ومع وجود حالة تيقن من تراجع الإقبال على دور السينما؛ لاستغناء كثيرين عما تقدمه بما يجدونه ميسوراً وسهلاً أمامهم في بيوتهم أو في غرفهم المغلقة، من أفلام ومسرحيات وبرامج ترفيه مختلفة، عبر مئات المحطات التلفزيونية أو وسائط التواصل الاجتماعي؛ كاليوتيوب ونحوه؛ لعل ما يشفع لنا بالبدء من حيث انتهى الآخرون، أن لنا أهدافاً تربوية وتهذيبية وترفيهية نحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى؛ وهي أن نسعى بقدر ما نستطيع إلى إبعاد كثيرين من أبنائنا عن الفردية والعزلة، ودمجهم في المجاميع البشرية، وإضعاف فرص الاختيار المنفلت، وتقليل حرية الدخول إلى القنوات أو المواقع غير المطمئنة من الجوانب الأخلاقية والدينية، بإتاحة ما يتطلعون إلى رؤيته من جديد الأفلام العربية أو العالمية وفق رؤية رقابية واعية راشدة، تشابه إلى حد كبير الرقابة التي تمارسها وزارة الثقافة والإعلام على ما يبث في قنواتها الرسمية.
هذا الجدل الساخن الذي يدور هذه الأيام عن السينما ليس جديداً؛ بل لقد دار حولها وعنها في مجتمعنا جدل طويل منذ أن نمى إلى أسماعنا في يوم ما، أن في بقاع عديدة من هذا العالم تجتمع فئة من الناس في مكان مخصص، وتبحلق عيونهم في شاشة كبيرة تختصر تجارب الحياة بحلاوتها ومرارتها وبجمالها وقبحها وبمشاعرها العاطفية السامية، وبقسوة وتوحُّش بعض البشر فيها على هذا الحشد المجتمع من الرجال والنساء ؛ فتغمرهم روح واحدة في تتبع تصاعد إيقاع الأحداث وإن كانوا يختلفون في ردود الأفعال النفسية تجاهها.
وقد سارت الأمور كما هي طبيعة التطور في الحياة؛ فبدون أن يشتد الخصام بين ممانع وراغب، افتتحت صالات سينما ودور عرض في أندية رياضية وفي دور تربوية، وكانت هناك أماكن مخصصة لبيع الأفلام أو تأجيرها في حي المربع بالرياض، ولم يتغير ذلك إلا قرب نهاية التسعينيات الهجرية من القرن الماضي، بعد أن ابتدأت موجة صاخبة وعنيفة من الرفض للجديد، واكبت مد ما سمي بـ»الصحوة» الذي أوقف وعطل اندفاع المجتمع إلى التحديث عقدين من الزمن.
ولئن كان ذلك الرفض في القديم مشفوعاً بحجة الخوف على الأخلاق العامة ؛ فإنّ الخطر الأكبر اليوم على الأخلاق ليس في دور السينما ؛ بل في الغرف المغلقة وفي الجوالات التي تنام عليها أصابع المراهقين وهم تحت أغطيتهم، وفي الآيباد وفي مواقع التواصل التي لا يمكن لأية جهة أو لأب أو أم - مهما اجتهدوا - أن يستطيعوا السيطرة على ما يصل إلى الناشئة والشباب، مما يقذفه العالم من الهزل أو الجد، ومن الغثاء والتفاهة، أو الغنى والفائدة.
وصرف الشداة والناشئة عن الانفراد بما بين أيديهم من وسائل المتعة واللهو، والوصول إلى ما يمكن أن يفسد ويدمر إلى رؤية ما يتم اختياره في دور السينما وفق بصيرة راشدة، لاشك أن فيه من الفائدة والإمتاع والاطمئنان وتحقيق الترفيه ما سيقلل - ولا أقول يمنع - من الانشغال بما يمجه الذوق السليم وينافي الأخلاق الفاضلة في حالات الانفراد والخلوة.