لبنى الخميس
في الأيام الماضية عشت مع سيرة الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، استيقظت ونمت على قصصه، عهده، وحكايا فترة ملكه، قرأت كتباً عنه وشاهدت ما وقعت عليه من أفلام وثائقية تناولت سيرته، واعترف بأني كلما قرأت أكثر وجدت أنها المهمة باتت أصعب.. كونه من الشاق بأن تمسك لسيرة بحجم الملك فيصل طرفاً، وتختزلها في مقال قصير.
اليوم أكتب عن قائد من الطراز الرفيع.. محاولة الاقترب من فهم سر تخليد التاريخ له كزعيم عربي شجاع.
ولد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز في يوم غير عادي صادف نصر الملك عبدالعزيز في معركة روضة مهنا.. فاستبشر والده بقدومه.. وأسماه فيصل على اسم جده. تربى في بيت أخواله من أسرة آل الشيخ يتيماً بعد أن توفيت والدته بستة شهور من ولادته.. فنهل من علمهم في العلوم الشرعية.. التي كانت أساس ومحور كل العلوم في تلك المرحلة. وكأن قدر الأيتام أمثال الشافعي ودافينشي ومانديلا وبيل كلينتون وابن باز وغيرهم الكثير أن يمنحوا جرعة التحفيز الإضافية ليتركوا بصمتهم ويخلدوا أثرهم إلى الأبد.
أسرار كاريزمته:
1 - فارس منبر
من أبرز الخصال القيادية التي تميز أي قائد هي قدرته على سرد خطابه والتأثير في الجموع بأسلوب مختلف ولغة متفردة تختلف عن أي قائد آخر، ولعل أبرز ما يميز خطابات الملك فيصل أنها كانت صادقة.. ولا تتكلف في زخرفة الكلام بعبارات دبلوماسية.. بل تسرد الحقائق المجردة إلى حد كبير، وما كلماته الشجاعة أمام الأمم المتحدة، وفي قلب البيت الأبيض أمام الرئيس نيكسون عن احتلال فلسطين إلا دليل ذلك، فلم يخش في الحق لومة لائم، لم يحاب ويجامل بالحق بل سرد الحقائق الدامغة، بصوت جهور وقلب جسور، ومواقف لا تنسى.
2 - سرعة بديهته
في لقاء رتبه الزعيم الفرنسي شارل ديغول مع الملك لتخفيف عداءه لإسرائيل، قال ديغول: لا بد أن تتقبلوا الأمر الواقع، إسرائيل لم تعد مزعومة كما يقول العرب، بل دولة معترف بها دولياً. فرد الفيصل على الفور: إذا كنت تطلب منا يا فخامة الرئيس أن نرضح للأمر الواقع، فلماذا لم ترضخ فرنسا لاحتلال ألمانيا؟ لماذا شكلت حكومة المنفى وكافحت حتى استعدت وطنك؟
أما الموقف الثاني، فكان مع أشهر وزير خارجية لأمريكا هنري كيسنجر حين التقى بالملك فيصل في جدة عام 1973 لكي يثنيه عن محاولة قطع البترول، ولما رآه عابساً أراد أنه يداعبه بمزحه فقال: طيارتي تقف هامدة في المطار، بسبب نفاد الوقود.. فهل تأمرون جلالتكم بتموينها؟ فلم يبتسم وأجاب فوراً.. وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي في المسجد الأقصى قبل أن أموت، فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟
سرعة البديهة في الرد والإلمام بالقضايا العالمية والسياق التاريخي للدول والرؤساء منحه هذا الذهن المتوقد والردود الحاضرة.
3 - الحسم
على الرغم من المعارضة الحادة التي جوبه بها ملف تعليم المرأة السعودية.. اتخذ الفيصل قراراً تاريخياً ينص على السماح لكافة نساء المملكة بممارسة حق التعليم حين قال: «إن الدولة ستفتح مدارس لتعليم الفتاة، لكنها لن تجبر أحداً على ذلك» ما يقدم صورة واضحة لأهمية إيمان القائد ووضوح رؤيته، التي يرى من خلالها تقدم وطنه وشعبه بالرغم من كافة العراقيل الاجتماعية والحواجز الثقافية، فقد كانت مدارس البنات محاطة بأفراد من الشرطة يرافقون دخولهم ويحمون حلمهم وحقهم في التعليم.
4 - تثمين الأقوال
كان يقال بأن الملك فيصل قليل الكلام وذكر غازي القصيبي في كتابه حياة في الإدارة أنه ركب معه في رحلة بالقطار بين الرياض والشرقية لمدة 7 ساعات ولم يقل فيها إلا 3 كلمات، وحين انقلب جمال عبدالناصر على المملكة في مطلع الستينيات وكان يشكك بشرعية الحكم ويحشد الإعلام على فيصل تحديداً من خلال راديو «صوت العرب». لم ينزل فيصل إلى مستوى الهجوم الرخيص الذي كان يشنه عبدالناصر بل كان يرد بالصمت حيناً والأفعال أحياناً أخرى، إذ أغاظه جداً حينما قرر أن يمنع مصر من شرف حياكة كسوة الكعبة وقرر صناعتها محلياً.
مات الملك فيصل.. ليقدم بعد رحيله سيرة مذهلة عاصرت تحديات سياسية وإدارية واقتصادية متعددة، وقف لها جميعاً كقائد مسؤول واستثنائي. وشكل مدرسة كاملة في القيادة والكاريزما وتحديداً عبر جاذبية بساطته ودهائه إيمانه بمشروعه الأهم وهو نصرة قضية فلسطين.. لذلك امتلاكك لرسالة وهدف سامٍ بحياتك، حتى لو كان تحسين حياة شخص واحد.. يعد عملة نادرة وطاقة جاذبة للشخصيات الكاريزمية.