عالمنا المعاصر بكل اتّساعه وتجارب الماضي وأحداث التاريخ البعيد والقريب.. ما زال يبحث عن الأمن بمفهومه الشامل، الذي يقترن فيه أمن الإنسان في حياته اليومية وغَدِه بمسيرة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول والمجتمعات في العالم.. بينما وضع مجلس التعاون الخليجي منذ الخطوة الأولى لتأسيسه مفهوماً لأمن أبناء دُوَلِه الأعضاء في إطار إستراتيجية الأمن العربي، ولا ينفصل عن أمن واستقرار العالم.
والمتتبع لسيرة العمل الخليجي المشترك يتضح له جليّاً معنى الأمن الذي يستند إلى إستراتيجية المواجهة الجماعية من دول المجلس لما قد يواجه المنطقة من تحدّيات وأخطار، وهو أمر ما زال يسعى العالم إلى بلورته أمام التغيرات والمستجدات التي يشهدها في أكثر من منطقة.. وفي نفس الوقت تعثَّر تطبيق مفهوم الأمن القومي العربي في فترات عديدة، فغدت الجامعة العربية تسعى لبلورة إستراتيجية جديدة له وسبل تطبيقها خاصة بعد الأحداث المريرة التي تعرّضت لها المنطقة والأمة العربية، بل العالم.. بسبب الأزمة التي نجمت عن الاحتلال العراقي للكويت وحتى تمّ تحريرها، وهي الجريمة التي قصمت مفهوم الأمن العربي وكشفت بؤر ضعفه، وما نجم عن ذلك من مواقف داخل المنظومة العربية كانت في وادٍ والالتزام بميثاق الجامعة والدفاع العربي المشترك في وادٍ آخر، بينما تأكَّد مفهوم الأمن الجماعي لدول المجلس بصورة جلية كموقف موحد التقى معه الأشقاء والموقف الدولي خلال الأزمة.
إذاً.. يمكن القول تحديداً بأنَّ الأمن الخليجي أخذ طابعاً عملياً واعياً من قبل أعضائه منذ تأسيس المجلس ليكون نموذجاً فريداً داخل الإطار العربي والأسرة الدولية، بعيداً عن التجريب الانفعالي، لأنه قام أساساً على ثوابت ومعطيات صلبة من الإرادة المشتركة على المستويين الرسمي والشعبي، وأطر عملية تقوم على التوافق في السياسة العاقلة المتزنة والتجانس الاقتصادي والاجتماعي وعوامل التاريخ والجغرافية الواحدة والمصير المشترك، وهي أُسُس لا يمكن إغفال أهميتها لتحقق الخطوة الهامة أيضاً في الحفاظ على كل هذه المعطيات من خلال إرادة سياسية واعية يوجِّهها المجلس الأعلى بدوراته السنوية المنتظمة ويخطط لها المجلس الوزاري واللجان الوزارية، وتنفذ بدقة كاملة من كافة اللجان الفنية والجهات المختصة في إطار من التعاون الفعّال.
وإذا استعرضنا في عجالة حالة العالم اليوم وبالتالي الواقع العربي من حيث البحث عن هوية الأمن ومفهومه وأهدافه، نجد أن الدلائل والشواهد ليست بعيدة، حيث يشهد عالمنا المعاصر سلسلة من المستجدات والأحداث المتلاحقة والتي تلقي بظلالها وتأثيراتها على مناطق عديدة من المنظومة الدولية.. فانعدام الأمن والاستقرار بتعدد أسبابه، هو أحد الأسباب الهامة في التغيرات الجذرية التي شهدها الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية وتلك الإرهاصات التي لا تبدو بعيدة الملامح في العديد من الدول الصناعية المتقدمة التي توّجت تقدمها بترسانات هائلة من أسلحة الدمار الشامل، حيث باتتْ تبحث عن الأمن الاجتماعي بعد زيادة معدلات الجريمة، والأمن الاقتصادي بعد أن طفحت على سطحها مشكلات اقتصادية عديدة تهدد أوضاعها الاجتماعية، ولعل الحرب الاقتصادية الدائرة بين الولايات المتحدة ودول أوروبا.. وكذلك الغرب من جانب اليابان من جانب آخر.
من هنا قدَّم مجلس التعاون الخليجي نفسه كنموذج للعمل العربي المشترك من أجل مصلحة المنطقة وأمن أبنائها ومصلحة الأمة العربية.. فالأمن لدى المنظومة الخليجية له معنى لا يتجزأ عن أسس وأهداف مسيرة المجلس.. هو كما أكَّده القادة الأشقاء وقال عنه خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز - رعاه الله - في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية لقمة قادة دول الخليج السابعة والثلاثين في مملكة البحرين: «لا يخفى على الجميع ما تمر به منطقتنا من ظروف بالغة التعقيد، وما تواجهه من أزمات تتطلب منا جميعاً العمل سوياً لمواجهتها والتعامل معها بروح المسؤولية والعزم، وتكثيف الجهود لترسيخ دعائم الأمن والاستقرار لمنطقتنا، والنماء والازدهار لدولنا وشعوبنا»، وهو الذي قال قبلها في إحدى المناسبات: «لا تنمية ولا علم ولا حضارة بلا أمن، وينبغي الاستمرار في تكاتف الجهود للمحافظة على هذه النعمة والتوعية بأهميتها».. هذا هو مفهوم الأمن الذي تحرص دول المجلس على تحقيقه بالتعاون المشترك الفعّال للوصول بأفضل خدمة لمواطنيها.
إذاً نصل إلى حقيقة ثابتة وواقعه هي أن نموذج الأمن الخليجي يقوم أساساً على مبدأ التعاون الذي قام عليه المجلس وجسَّده في اسمه وأهدافه.. ولكنه التعاون الإيجابي المرن الذي يضمن أسس نجاحه وعوامل تحقيق أهدافه الشاملة التي تتوج الأمن الواعي بمفهومه الشامل لكافة مواطني دول المجلس في أهم بقعة من العالم يكمن فيها عوامل استقراره وتقدمه، وواجهة مشرقة للأمة العربية باتزانها وثقلها ومكانتها المؤثرة.
ولعل نجاح مجلس التعاون في مسيرته على كافة الأصعدة تتقدمها قاعدة الأمن الشامل كعنصر أساسي لتأمين المسيرة الاقتصادية والاجتماعية والدور البارز، يكمن في هذا النجاح في الأسس التي ارتآها النظام الأساسي له بأن يكون التعاون هو مسمى وواقع حتمي لا مجال فيه للاجتهاد القسري أو التجارب الانفعالية، أي تعاون ينطلق من إرادة واحدة ورؤى مشتركة تدفع الحاضر إلى مستقبل أفضل اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، تفاعلات تحْدُوها المرونة والتقدير والالتقاء على كلمة سواء.. تجسيداً للخصوصية التي تتمتع بها دول المجلس في إطاره من حيث عوامل التوافق ووحدة الأهداف والمصير التي تحتِّمُ وحدة العمل، وانطلاقاً من يقين بأنه إذا كان أمن كل دولة هو مسؤوليتها فإنَّ الأمن الجماعي مسؤولية الجميع ويستلزم التعاون في حدود المصلحة من أجل سلامة أبناء كل دولة وسلامة الكيان الخليجي ككل مع يقين آخر بأنَّ لكل دولة سياستها وتشريعاتها وهويتها الخاصة.. ولكن بينهما التنسيق والتعاون تحقيقاً للتكامل ووصولاً إلى الوحدة التي تقدم المجلس الخليجي نموذجاً للهوية الواحدة في إطارها وأهدافها.
وإذا نظرنا إلى هذه الصورة إجمالاً نجد أنها ثمرة جهود كبيرة بذلها القادة الأشقاء من خلال اللقاءات الدورية والتشاور التام، ولكن الواضح أيضاً أن المجلس في مسيرته يحظى برؤية جليلة ودعم كبير من مؤسسة القمة، وبصفة خاصة من وطننا الكبير (المملكة العربية السعودية) التي تحرص دائماً على أن يظل مجلس التعاون الخليجي كالعقد المترابط فيه الخير ومنه العطاء لأبنائه ولأمته ولاستقرار العالم، فخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -يحفظه الله- بما له من مكانة مرموقة ودور بارز على كافة الأصعدة الخليجية والعربية والإسلامية والدولية، وبما للمملكة من ريادة وثقل في دورها وتأثيرها تدفع هذه البلاد وقيادتها الحكيمة بكل ما يحقق للمجلس المزيد من القوة والفاعلية ولأبنائه المزيد من الأمن والأمان والاستقرار.
ولعل الزيارات المتزامنة والمتواصلة التي لن تُمحى من تاريخ المملكة والخليج والتي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - مؤخراً - لأربع دول خليجية أعضاء في مجلس دول التعاون الخليجي هي في هذا الباب، بل وطلبه الانتقال بالمجلس من التعاون إلى الاتحاد الذي -حقيقة- هو ضرورة حتمية لا سيما في هذا العصر الذي بدأت إرهاصات المتغيرات العالمية الجديدة تضع الخليج بشكل عام والمجلس بشكل خاص أمام تحديات كبيرة.
فالمملكة بنهجها ودورها وإمكاناتها هي نموذج حيٌّ للحكمة والأمن والأمان والاستقرار وهي من مجلس التعاون وإليه مصدر للخير والأمن الذي يواصل به المجلس مسيرته في نهضة ورقي، ولعل هذه هي مشكلة عالمنا المعاصر إذا وجد الأمن والاستقرار وجد كل الخير لإنسان هذا الكون.
وختاماً: اللهم امنح قادة الخليج العربي وشعوبها العيش تحت سقف المحبة والمودة والتفاهم، واذهب بهم إلى نعيم السلام وجنات الاستقرار وحدائق الكرامة والشرف المعشوشبة بالآمال والطموحات الناصعة، وأبعد عنهم المخططات والدسائس من الحاقدين والمتوثبين المتربصين والمغرضين والطامعين. إنه سميع مجيب.
- مدير العلاقات العامة والإعلام بتعليم وادي الدواسر