«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة وتعودت العديد من الأسر في المدينة على إعداد أطعمة مناسبة لمثل هذه الليالي شديدة البرودة كالعصيدة، والمحمر، والمرقوق.. الليلة كانت الوجبة عصيدة بالتمر والدهن البقري مع الفلفل الأسود مع عدد من حبات البيض، عندما علمت لطيفة ان والدتها سوف تقوم بإعداد العصيدة لم تتأخر، إن ذهبت اليها تجلس بجوار «الموقد» وطلبت منها ان تزيد في الكمية فهي ترغب أن تعطي «مطبقة» من العصيدة لابنة جيرانهم زينب! فهي دائما تذكرها بروعة العصيدة التي تعدها ام لطيفه. نظرت الام باسمة إلى وجه ابنتها المنير بجماله وزاد نوره أكثر عندما اقتربت من «الاتريك» والذي كان معلقاً بجوار الموقد.. وقالت وهي تشعر باعتزاز أن ما تعده من وجبات يحظى باهتمام ابنة جيرانهم زينب وغيرها من نساء وفتيات الجيران، فعادة اشتهرت بها هذه المدينة «الحساوية» هي تبادل الاطعمة والمأكولات بين بعضهم وبعض أبشري (يا لطوف) وهكذا كانت تسميها تدليلا وتحببا رغم انها بلغت الرابعة عشرة من العمر، لكنها تراها دائماً طفلتها «لطوف» الصغيرة التي لن تكبر أبدأ.. واستطردت قائلة: سوف أعمل لهم (خنفروش) مخصوص.. اقتربت لطيفة من والدتها وراحت تقبل رأسها شاكرة وشعرت بالدفء بفضل نيران حطب الموقد.. رغم النسمات الباردة التي داعبت وجهها وهي تعبر ساحة البيت (الحوي) قادمة من غرفة البيت العوده والتي تعتبر المجلس العام لجميع من يقيم في البيت!.
كان بيت الجيران مثل اغلب بيوت المدينة ملتصقة بعضها ببعض كأنهما توائم من احجار وطين وجص. ولكن داخلها سكان احبوا بعضهم وتماسكوا منذ القدم في وحدة ليس لها مثيل . حتى ان العديد من ابار المياه (الجليب) تجدها مشتركة بين هذا البيت وذاك، كما هو حاصل بين بيت لطيفة وبيت زينب. ومنذ كانتا صغيرتين كانتا تلتقيان عند المطوعة وصار بينهما ود والفة يوما بعد يوم، وزاد من مشاعرهما تجاه بعضهما كونهما تلتقيان ايضا وتتحدثان من تحت جدار البئر (الجليب) الفاصل بين البيتين..! أو من خلال مرافقتها لوالدتها لزيارة أم لطيفة حيث تساعدها في بعض اعمال البيت. أو تأتي ومعها (بقشة) بها ما سوف تقوم بعمله أو تطريزه من (نفانيف الزري) أو البخانق المطرزة بالزري والترتر، فهي خبيرة في مثل هذه الأعمال وتوارثت هذه المهنة الدقيقة من أمها وحتى جدتها.. وأم لطيفة وحتى أم فهد جارتهم الأخرى سعيدتان كثيرا لحضور أم زينب فهي وبحكم تعاملها الواسع من نساء وفتيات المدينة على علم بكل كبيرة وصغيرة تحدث في مدينتهم، لذلك سمتها ام فهد (صوت البحرين) نسبة لاذاعة البحرين التي كانت تبث اخبارا مختلفة، وكان راديو بيت لطيفة الخشبي الكبير يلتقط هذه الاذاعة وغيرها من الاذاعات في ذلك الزمن الجميل . بل ان ام زينب كانت لا تتردد ان تطلب من ام فهد تشغيل الراديو حتى تستمتع بما تذيعه الاذاعة من برامج مختلفة وسعادتها تكون مضاعفة عندما يأتي دور الاغاني وعلى الاخص الشعبية تحب ان ترددها بل تجيد تقليد اصوات اصحابها كمحمد فارس وحضيري بوعزيز..الخ.. انتهت الأم من إعداد العصيدة ووضعتها في المطبقة المعدنية المزخرفة نقشا بالزهور والورود ووضعت عليها صحنا غطته بفوطة وسلمتهما لابنتها لطوف. لم تتمالك الابنة الا أن تشكر والدتها بقبلة على يدها المزدانة بالحناء. ثم اتجهت بسرعة إلى غرفة (الجليب ) البئر وراحت تضرب على طشت الغسيل بضربات وبإيقاع خاص تعودت عليه كلتا الفتاتين.
لم تمض الا لحظات وإذا بزينب تمد رأسها من تحت الجدار العازل ممسية بصديقتها لطيفة، وهي تمدها بصحن فيه كمية من (الممروسة) وهي تقول اشتهيتها لك وللوالدة وعلى فكرة ترى نثرت عليها من عندي حبات من الكازو..! وأضافت مستطردة: إن شاء الله تعجبكم... وقبل ان تكمل كلامها مدت لها لطيفة مطبقة العصيدة وصحن الخنفروش وهي تقول: سبحان الله وأنا اشتهيت لكم هذا. قالت ذلك وهي تنحني مادة رقبتها لتلتقي العيون المحبة من تحت جدار الجليب مع صدى ضحكاتهما التي كانت تسمع في اعماقه..! كما يسمعه الوطن الذي يبارك امثال هذه المشاعر الإنسانية والوطنية التي تجسد الوحدة واللحمة الوطنية الواحدة.