نجيب الخنيزي
تختلف الأحزاب والحركات الشعبوية القومية الراهنة في الغرب عن الأحزاب الفاشية التي شهدتها أوروبا منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي تسببت في مآس دامية من قتل وترهيب وإبادة لقطاعات واسعة من الشعوب الواقعة تحت تسلطها، كما تتحمل مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الثانية التي خلفت دمارا شاملا وعشرات الملايين من القتلى والجرحى.
الخطاب القومي الشعوبي المعاصر يعلن تمايزه عن الحركات القومية الفاشية القديمة، من خلال إعلانه احترامه وتقبله للتعددية والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، كما يتباين هذا الخطاب عن مواقف اليمين المتطرف المستند إلى قاعدة ايدلوجية واضحة المعالم في تجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما هو الحال مع بروز ظاهرة الريغانية في الولايات المتحدة والتاتشرية في بريطانيا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
تعلن الحركات القومية الشعبوية ازدراءها للنخب الحاكمة والطبقة السياسية التقليدية وسياساتها، كما توجه خطابها للفئات المهمشة والمحبطة والعاطلة وخصوصا في الأرياف والأطراف، والتي تشعر بأنها متضررة من الاندماج في نظام العولمة أو الاتحاد الأوربي، بما تتضمنه من خروج رؤوس الأموال والمصانع والشركات إلى الخارج بحثا عن الربح والأسواق والعمالة الرخيصة (الولايات المتحدة مثالاً) والتي يفاقمها المخاوف المتزايدة من خطر الهجرة الشرعية وغير الشرعية المتزايدة، إلى جانب تفشي الإرهاب المرتبط بظاهرة تصاعد الإسلام فوبيا في الغرب.
اللافت للنظر ان الخطاب القومي الشعبوي يقوم بشكل نفعي (براجماتي) بإعادة تسويق بعض الأطروحات اليسارية عن طريق الخداع التضليل وهي استراتيجية للوصول إلى السلطة وكسب النفوذ السياسي من خلال استثارة المشاعر الشعبية ومخاوف وتطلعات قطاعات واسعة من الشعب، وذلك من خلال الخطابات والدعاية الحماسية مستخدمين المواضيع القومية والشعبية محاولين استثارة عواطف الجماهير، وهو كما حصل مع ترامب في الولايات المتحدة ولوبان في فرنسا وهايدر في النمسا وجانمات في هولندا وديلن في بلجيكا.
مارين لوبان في كتابها «كي تعيش فرنسا» تستحضر العديد من أقوال المفكرين والسياسيين اليساريين، بل وكارل ماركس نفسه، مبدية إعجابها على بدايات هذا اليسار، غير انها اعتبرت أن هذا اليسار خان مبادئه وشعاراته، وبأن هذه الأهداف باتت تحملها الآن «الجبهة الوطنية»، من جهة ثانية اعتبرت لوبان أن ترامب وبوتين (الذي يتبنى الخطاب ذاته) يشكلان الآن ثنائياً، بانتظار انضمامها إليه.
حقق الخطاب القومي الشعبوي نجاحات متتالية في غالبية الدول الأوربية ففي فرنسا انحصرت المنافسة عمليا في الانتخابات الرئاسية القادمة بين اليمين المتطرف واليمين الشعبوي، وفي إيطاليا نجحت الأحزاب الشعبوية المعارضة للاستفتاء، وخصوصاً «حركة خمسة نجوم» و»رابطة الشمال» لانفصالية، في حشد أغلبية تراوحت بين 54 و58%، ما دفع رئيس الوزراء ماتيو رينزي للاستقالة. وفي بريطانيا نجح التيار اليميني فى بريطانيا، والذى يقوده حزب الاستقلال إضافة لجناح في حزب المحافظين، فى حث البريطانيين للتصويت لصالح الخروج (بريكست) من الاتحاد الأوروبي فى يونيو الماضي، وفي ألمانيا، يحقق حزب «البديل لألمانيا» اليميني الشعبوي سلسلة من الانتصارات الانتخابية في الأشهر الأخيرة، مستغلا الاستياء الشعبي من تدفق المهاجرين إلى البلاد.
كما يسجل الوضع نفسه في دول مثل النمسا وهولندا وإسكندينافيا، حيث يتصاعد اليمين المتطرف، وكتب زعيم الحزب اليميني المتطرف في هولندا جيرت فيلدرز، على «تويتر» معلقا على فوز ترامب اليوم «انتصار تاريخي لنا جميعا».
كذلك أعرب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس التشيكي ميلوس زيمان، اللذان يتعرضان للانتقاد بسبب خطابهما القومي الشعبوي والمعادي للهجرة، عن تأييدهما لفوز ترامب.
يعتقد الدكتور جاك غولدستون: أستاذ السياسة العامة بجامعة ميسن بالولايات المتحدة الأميركية أن فوز دونالد ترامب كان محطة مفصلية بالنسبة للتيارات اليمينية في الدول الغربية. وأن اليمين المتشدد سوف يفوز في أكثر من استحقاق انتخابي ما دام يستغل خوف الناخب الغربي على هويته. إن هناك اختلالات كثيرة تعصف بالمجتمعات الغربية، وعندما تكون هنالك اختلالات فإن التيه يغلب على الشعوب؛ ومن ثم فإن هذه الشعوب تتساءل: كيف يمكننا أن نضمن نقاءنا وصفاءنا؟ إن أغلب الشعوب الغربية الآن تلوذ بهويتها نتيجة خوفها من الآخرين. والسياسيون يستغلون هذه المخاوف، ولا شك في أن الخوف سوف يتجذر ما دامت الطبقة المتوسطة ضعيفة والغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا. والتوجه العام نحو حماية الهوية سيتمخض وهذا مناخ مهم للأحزاب الأوروبية المتشددة وقد نجحوا في استغلاله. ولا شك في أن الاتجاهات العولمية الجديدة تعزِّز من ترسيخ هذه التيارات القومية.