د.عبدالله مناع
منذ رائدي عهد الاستقلال اللبناني في الأربعينات من القرن الماضي: (بشارة الخوري) و(رياض الصلح).. ظل لبنان ينتصر لـ(عروبته) إذا احتدمت مع (طائفيته).. مؤمناً ومؤكداً بـ(إن الدين لله) و(الوطن للجميع)!! وقد تجدد ذلك في الستينات مع ثنائي الحكم العروبي الأعظم له.. من خلال: فؤاد شهاب ورشيد كرامي، وفي السبعينات.. مع (سليمان فرنجيه) و(صائب سلام)، ثم مع (شارل الحلو) و(عبدالله اليافي)، ثم مع (إلياس سركيس) و(سليم الحص)، ثم مع (إميل لحود) و(رفيق الحريري)، ثم مع (ميشيل سليمان) ورئيس وزرائه (نجيب ميقاتي).. ليتجدد اليوم - بعد الفراغ الرئاسي المرعب والمشحون بكل الاحتمالات الذي امتد لقرابة ثلاثة أعوام - مع (ميشال عون).. الذي تم انتخابه على ذات قاعدة الانتصار للعروبة.. رغم كل ما حفل به ماضيه - عندما كان قائداً للجيش اللبناني - من عداء لـ(العروبة) وللوطنية اللبنانية، وكفاحها المشترك مع الفلسطينيين.. ضد عدو الأمة العربية الأول: (إسرائيل).. وما انتهت إليه تلك المرحلة من حرب أهلية لبنانية مدمرة.. أشعلتها مارونية (حزب الكتائب اللبناني) وزعيمه بيار الجميل وأبناؤه.. والتي امتدت لخمسة عشر عاماً، ولم ينهها إلا (اتفاق الطائف) العربي.. الذي هندسته (المملكة) أيام المغفور له الملك فهد بن عبدالعزيز، ولكن، ولأن السياسة هي (فن الممكن).. لم يجد (العماد عون) بعد غيبته الطويلة في (باريس)، وحلمه الذي لم يمت خلالها في الوصول إلى قصر (بعبدا) رئيساً لـ(لبنان).. إلا أن ينتصر بـ(العروبة) ولو من بوابة (حزب الله) بداية، حتى يفوز بـ(تأييده) ومقاعده الثمانية في البرلمان اللبناني.. الذي يتولى انتخاب الرئيس عبر أصوات أعضائه المائة والثمانية والعشرين نائباً، وهو ما كان.. عندما تم انتخابه في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر الماضي.. ولكن بعد سلسلة من المفاجآت السياسية ذات العيار الثقيل، والتي كان في مقدمتها انسحاب: سمير جعجع - قائد القوات اللبنانية - من ترشيح نفسه.. لصالح (العماد عون)، والتي كان من أهمها وأعظمها دون شك.. تأييد تيار المستقبل أو الرابع عشر من آزار - شهر مارس - لترشيح عون للرئاسة.. و(التصويت) له، وفي المقابل.. تكليف زعيم تيار المستقبل (سعد الحريري) لرئاسة الحكومة اللبنانية.. في أكبر وأنجح الصفقات السياسية الكبرى التي شهدها العام الماضي (2016م)، والتي ربما لولاها.. لما تم انتخاب العماد عون لـ(الرئاسة) و(سعد احريري).. لـ(الوزارة).. إلى يومنا هذا!؟ وقد أكمل إنجاح تلك الصفقة السياسية البارعة.. أو الجراحة بـ(المنظار) التي تم التخلص بها من (خرَّاج) الانتخابات الرئاسية اللبنانية.. في غمضة عين.. واجب: التهنئة الهاتفية التي قدمها الملك سلمان بن عبدالعزيز بحكم محبته للبنان.. وعلاقاته المتجذرة مع الأطياف اللبنانية من الساسة والأدباء والصحفيين والإعلاميين ورجال الأعمال بامتداد سنوات إمارته لـ(الرياض).. للعماد عون فور الإعلان عن انتخابه، ثم تبعها بإيفاد مستشاره الأمير خالد الفيصل.. لتقديم التهنئة.. مصحوبة بدعوة الرئيس عون لـ(زيارة) المملكة، والتي استقبلها الرئيس عون وحكومة الحريري واللبنانيون جميعاً.. بفرحة عارمة غامرة تستحقها.. بعد شهور الجفوة والعتب، الذي بلغ مشارف الغضب في بعض قراراته بين الدولتين الصديقتين، صاحبتي التاريخ الطويل والمشترك من المحبة الخالصة، والتعاون المثمر الدائم الذي لم تنقطع وشائجه طيلة عقود ما بعد الاستقلال.. حيث كانت (المملكة) خلالها شريكا دائما لـ(لبنان) في سرَّائه وضرَّائه.
* * *
ولأن زيارة الرئيس عون للمملكة التي بدأت يوم الاثنين الماضي تتخطى الجانب البروتوكولي.. إلى الجانب السياسي والاقتصادي والاستراتيجي على مستوى الدولتين، وعلى مستوى المنطقة والعالم، فقد صحب الرئيس عون في معيته سبعة من وزرائه الرئيسيين: المالية والخارجية، والدفاع والداخلية، والاقتصاد والتجارة، والتربية والإعلام.. لفتح كامل الملفات التي أغلقت طوال الأحد عشر شهراً الماضية، وسادها الكثير من اللغط والقيل والقال.. وفتح صفحة جديدة في روزنامة العلاقات التاريخية بين البلدين.. توصل ما انقطع منها خلال شهور الجفوة والتباعد والظنون.. لتعود وكما كانت، وكما يجب أن تكون على الدوام صافية دافئة، فـ(لبنان).. هو حديقة العرب، وهو مصيفهم وهو ناديهم.. إذا اختلفوا ذهبوا إليه، وإذا اتفقوا.. ذهبوا إليه، وليس من شك في أن لبنان بـ(جماله) وكبريائه عانى كثيراً.. خلال الأحد عشر شهراً الماضية التي تخللتها شهور صيف عام 2016م الماضي.. والتي شهدت بواراً لم يعهده لبنان واللبنانيون - الذين اعتمدت حياتهم اليومية على سياحتي: الصيف والشتاء - إلا في سنوات الحرب الأهلية التي انتهت بشرورها عام 1990م، فإذا صدق ما تناقلته بعض وسائل الإعلام.. عن دعم سعودي قدرته بـ (اثني عشر ملياراً) من الدولارات.. في شكل منح ومساعدات وقروض ميسرة.. فإن ذلك يعني إلى جانب إعادة فتح أبواب (الاستثمار) السعودي والخليجي، وإعادة التبادل التجاري بين البلدين، والسماح بعودة السياح السعوديين والخليجيين إلى لبنان.. بأن (لبنان) يقف على أبواب صيف قادم وافر سعيد، يذكرني بتلك المشاهد التي عشتها في شوارع بيروت وبين مكتباتها ومقاهيها ومطاعمها و(بوتيكاتها) في الحمراء وعلى كورنيش المزرعة في إبريل من عام 2013م، واللبنانيون يعيشون في نشوة وبهجة وهم يتهيأون لاستقبال صيف ذلك العام.. وكأنهم ينتظرون ليلة فرح أو عرس يشارك فيه كل شباب وشابات لبنان.
* * *
على أي حال.. وبعيداً عن الاقتصاد والتجارة والدعم الاقتصادي السعودي لـ(لبنان) في أزمته الخانقة التي لا تخفى على عقل العقلاء.. فإن الزيارة التي قام بها الرئيس اللبناني (ميشيل عون) وبصحبته هذا العدد الضخم من الوزراء.. الأسبوع الماضي.. تشكل قيمة إستراتيجية كبرى له ولـ(المملكة) وما تمثله؟
فهي أول زيارة يقوم بها الرئيس عون.. خارج وطنه لبنان.. بعيداً عن ولاءاته وتحالفاته المصلحية السابقة، وهي تحمل العديد من الرسائل لـ(المنطقة) ولدول العالم القريب والبعيد منها، وهي تحمل في طياتها.. محاولة لإطفاء اللهب المذهبي المتأجج في منطقة الخليج العربي الذي إن أطلق عنانه.. فسوف لا يبقي ولا يذر، وسوف يكون دعاته.. هم أول حطبه!!