د. محمد عبدالله العوين
إنها لمفارقة غريبة وعجيبة أن يمتلئ الفضاء بأسباب الوصول إلى المعرفة، وأن تمتلئ الأعين والآذان بما يوصلها أو يصل إليها من مختلف الثقافات والمعارف في العالم كله، ومن الحضارات الإنسانية جميعها وبكل اللغات؛ ومع ذلك لا نجد أثراً واضحاً بيناً على الإفادة من ثراء المعرفة، وانعكاسها على عقول وسلوك وطبائع من توفرت لهم كل هذه الأسباب السهلة الممتعة!
وهذه قصة أحد الشباب الذي وقع فريسة التنازع المرير بين الخير والشر؛ فقد وجد نفسه في لحظة من اللحظات التي يمر فيها بحالة من الملل والقلق متنقلاً بين مئات المحطات التلفزيونية، فتمر عليه القنوات الإخبارية والتحليلات السياسية، وتقع عينه على الحوارات الساخنة والجدل الفكري؛ فيضغط بإصبعه مسرعاً هارباً من قنوات كتلك، ليبحث عما هو أكثر متعة وألذ متابعة وأيسر على ذهنه المكدود، فيتوقف عند الرياضة وصراعات متحدثيها وسباب بعضهم البعض؛ فيجذبه هوسه الكروي إلى متحدث ينتشي بقوة حجته واستماتته في الدفاع عن ناديه المفضل، وتسعده حالة لا تخفى من مشاعر الهزيمة على ملامح الخصم العنيد، ويستمر في الضغط على أزرار «الريموت» فينتقل به ماراً بلمح البصر على عشرات القنوات، ما بين رقص وغناء واستعراض أزياء وحفلات فنية ومقابلات مع فنانين وفنانات؛ فتجذبه حلاوة أو ملاحة أو نضارة أو غمزات إحدى المقدمات التي لم يشفع لها في الجلوس أمام الكاميرا، سوى ما تغري به عين المشاهد من التفاتات ومن حركات؛ فلا يجد الشاب وإن دافع نفسه عن التدقيق والبحلقة، إلا أن يستسلم لإغراء اللفتات والغمزات، وهكذا يسير به الريموت على هذه الحال بين خمائل الفضاء التلفزيوني، وحدائقه العذبة والمريرة والغنية والفقيرة والخاوية والثرية والهشة والثقيلة، حتى إذا كاد الملل من جديد أن يستولي عليه بعد تطواف فضائي، يستغرق منه كل مرة ساعة أو ربما ساعات تمر عليه وهو لا يدري، رمى بالريموت بعيداً ثم أخذ يقلب في جواله ويتنقل بين وسائط التواصل الاجتماعي المتعددة؛ فتوقف طويلاً عند معرفات لا يجد فكاكاً من متابعتها على الرغم من رخصها وسطحيتها؛ بل وبذاءتها وتهتكها؛ ولكنه في كل مرة تطول به البحلقة في ما تقذفه تلك المعرفات الرديئة أمام عينية من تبذل ورخص، وبعد أن يمضي به الليل إلى قرب نهاياته يعقد العزم على أن يقلع عن العودة إلى ذنوب تلك المعرفات وآثامها، ويأخذ على نفسه عهداً بأن ينسحب من متابعتها ؛ على الرغم من أن اسمه نكرة مزيف منتحل لن يعرفه أحد ؛ إلا أن تربيته الدينية وما وقر في نفسه من قيم أخلاقية أسرية تنتفض في داخله بين فينة وأخرى، وتبدأ في إلقاء المواعظ والنصائح وتبث في نفسه المخاوف من عواقب ما أتاح له فضاء التواصل من حرية الوصول إلى ما كان يحلم بأن يراه يوماً ما، وهو الآن صاحب القرار الأول في متابعة ما يختار دون وصاية أو ضغوط أسرية سوى وصاية عقله وينه وخلقه، وهو بين حالتي الضعف والقوة اللتين تتنازعانه مشتت الفكر حائر القرار خائر العزيمة، كلما أقر قراراً نقضه وضعف وتراجع عنه ؛ فكأنه يحاسب نفسه وهو في حالتيه بعد أن تشتد به النفس اللوامة: كيف لي أن أسمح لعيني برؤية ما أعتقد في قرارة نفسي أنه ساقط بذيء ؟! وكيف لي أن أتابع معرفات لمجاهيل ولمجهولات لا أعلم من هم ولا من هن ومن أين يبثون كل هذا الغثاء السقيم؟!
وقد أثقل عليه هم التنازع الذي يمزقه من الداخل بين أصالة التربية وعظم القيم التي تربى عليها ؛ فتأسره لحظة يقظة صارمة قاصمة، ليمد يده إلى الريموت كنترول ليبدأ بحذف قنوات الغثاء بعد جمعها في تظليل واحد، ثم بضغطة زر واحد طارت إلى المجهول، ويبدأ باستعراض معرفات الفجاجة والبذاءة والتبذل فيمر عليها واحدة واحدة منسحباً وأحياناً من شدة كراهيته لبعضها ضاغطاً على كلمة «محظور»!