تقديم المترجم: نواصل مع ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية الفريدة للبروفيسور يارون أيالون، أستاذ مساعد في التاريخ، جامعة بول ستيت، مدينة منسي، ولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأمريكية. وهو مؤلف كتاب «الكوارث الطبيعية في الإمبراطورية العثمانية: الطاعون والمجاعة ومصائب أخرى» ، قسم النشر بجامعة ولاية إنديانا، عام 2014، 240 صفحة. ونشرت الورقة في ديسمبر 2009:
ومن خلال تحويل النقاش من إبراهيم وإسماعيل إلى تطور اللغة العربية قبل وبعد ظهور الإسلام، نجح حسين في تخفيف الذم الذي وُجه ضد كتابه الأول. وفي الواقع فإن الفصل المنقح قدم أكثر قليلاً من تصحيح ذاتي لطيف بدلاً من امتثال صادق لمطالب العلماء والمحافظين. هذا التغيير بالكاد يمكن اعتباره كخضوع من حسين للضغوط العامة، بل بالعكس، فبالنسبة إلى حسين الذي لم يتمكن من أن يشكك علناً ومجدداً في الصدقية التاريخية للقرآن، فإن فحص أصول لغته كان بمثابة قناة بديلة لتقديم هذه الفكرة نفسها؛ فالشعر والأدب الجاهلي شكلا أساس لغة القرآن ويعدان من التعاليم الجوهرية في الإسلام. (46) إن أي محاولة لإظهار أن القرآن شَكَّلَ تاريخياً مصدراً للغة بدلاً من أن يكون مستلهماً منها قد يعتبر كتجديف. وكما تصادف، لم يُنظر إلى كتاب «في الأدب الجاهلي» على هذا النحو، ربما لأنه بمجرد أن بدا أنه تم حذف المشكلة الكبرى، لم يهتم أحد بالخوض في بقية كتاب حسين. وفي أماكن أخرى من كتاب «في الأدب الجاهلي»، لم يكلف حسين نفسه حتى عناء تعديل النص الأصلي وأعيد نشر الأفكار نفسها حرفياً بخاصة في ما يتعلّق بنسب النبي ومسألة السيادة العربية على الأراضي العربية. (47)
ولكن تكمن الأهمية الكبرى لكتاب «في الشعر الجاهلي» في الأقسام الجديدة من الكتاب كـ المقدمة والفصول الإضافية التي تناقش جوانب أدبية في الشعر والأدب. وسيكون من المفيد النظر إليها بالتفصيل؛ فالمقدمة الجديدة المعنونة «الأدب وتاريخه» توضح الفرق بين الطرق «الشرقية» القديمة للتعليم، المطبقة في المدارس المصرية والطرق «الجديدة» المستخدمة في أوروبا، وإلى حد ما، في الجامعة المصرية. وانتقد حسين علماء الأزهر لتمسكهم بطرق التدريس القديمة، و«لأنهم لم يدرسوا تاريخ آداب اللغة ولم يعرفوا العصر الجاهلي ولا تكسب الشعراء بالشعر، ولا تنقل الشعراء في القبائل، ولم يعرفوا العصر الأموي، ولا مناقضة جرير والفرزدق، ولا نشأة العلوم. ولم يعرفوا العصر العباسي ولا ما استحدث فيه من الشعر السهل والنثر الرقيق ولا ما ترجم فيه من فلسفة اليونان. ولم يعرفوا انحطاط الأدب بعد أن سقطت بغداد في يد التتار، ولا رُقي الأدب يوم قامت في مصر دولة محمد علي الكبير»، انتهى كلام طه حسين. (48).
ويوضح حسين أن هذا الوضع الرديء للتعليم في المدارس المصرية كان موجوداً في بداية القرن العشرين، ولسوء الحظ لم يتغير الوضع كثيرا منذ ذلك الحين. وعند قراءة تقرير حديث عن نظام المدارس العامة، اندهش حسين عندما اكتشف فيه سلبيات كان قد قرأ عنها قبل 10 و15 سنة. (49) وهذا الركود في التعليم العام يؤدي إلى وضع ينعدم فيه الفرق «بين الأستاذ الذي يُدرس الأدب في هذه السنة والأستاذ الذي كان يُدرسه من خمس عشرة سنة، وكذلك ينعدم الفرق بين التلميذ الذي يظفر بالشهادة الثانوية الآن والذي كان يظفر بها منذ خمس عشرة سنة. وليس أدل على هذا كله من أننا حين أردنا أن ندرس الأدب في الجامعة الجديدة لحملة الشهادة الثانوية؛ اضطررنا إلى أن نبدأ الدرس من أوله فنعلمهم أوليات النحو والصرف والبلاغة والتاريخ، فضلاً على أوليات الأدب، وليس معنى هذا أن الأدب لم يتقدم في مصر، وإنما معناه أن الأدب لم يتقدم في مدارس الحكومة والمدارس التي تقلّدها وتذهب مذهبها لتظفر بالشهادات والإجازات. وأنت تعلم أن الفرق عظيم بين مصر ومدارس مصر»، انتهى كلام طه حسين. (50)
ثم يشكو حسين: «من أن اللغة العربية ليست لغة التعليم، وما أكثر ما نضيق ذرعاً باضطرارنا إلى اصطناع اللغات الأجنبية في التعليم العالي! ولكن ما أقل ما نبذل من جهد لنجعل اللغة العربية لغة التعليم، بل نحن لا نبذل في هذا جهداً ما. وكيف تكون اللغة العربية لغة تعليم وهي لا تدرس في المدارس المصرية! فاللغة العربية لا تُدرس في مدارسنا، وإنما يُدرس في هذه المدارس شيء غريب لا صلة بينه وبين الحياة، لا صلة بينه وبين عقل التلميذ وشعوره وعاطفته»، انتهى كلام طه حسين. (51)
وعند سبر تطور الأدب العربي، يشير حسين إلى تعريف أوسع: فهو «تأثير الشعر والنثر، وشرحهما وأسس الجمال الفني الموجود في داخله»، فضلاً على اللغة والنحو لهذه الأعمال المكتوبة. (52) ويشرح حسين أن لهجة قريش لم تكن أساس الأدب العربي على الرغم من الاعتقاد السائد بذلك. فقد كان يتم التحدث بالعربية بعدة لهجات قبل وبعد انتشار الإ سلام. وفي الواقع فإن لغة قريش بصفتها اللغة الرسمية للمجتمع الجديد كان لها تأثير على لهجات أخرى وعلى عدة مناطق ولكنها لم تترك بصمتها في الأدب. (53) ومثل هذه الافتراضات تتطلب دراسة الرابط بين الأدب والتاريخ، ويتحسر حسين بأنه على خلاف الأحداث السياسية، فإن دراسة الأدب والتاريخ تعد ذاتية وليست موضوعية. وهو حقل تعد فيه الاستنتاجات الحاسمة في حكم المستحيل تقريباً. (54) وهنا يشير حسين ضمنياً مرة أخرى إلى أن النقد الذي تعرض له لم يكن مُبرراً، لأنه ليس هناك طريقة تجريبية تثبت ما إذا كان رأيه صحيحاً أو خاطئاً. وبالنسبة إلى حسين، فإن الدراسة المستقلة للأدب ستسمح بمساحة أوسع من التفسيرات الشخصية التي تشتد الحاجة إليها. (55).
طه حسين: لا ينبغي لعلماء الدين ممارسة أي دور لتحديد شرعية المعرفة المنتجة
ولذلك يدعو حسين إلى ظهور عَالِمْ من نوع جديد. هذا العالم ينبغي أن يكون قادراً على دراسة شاعر أو عمله ونشر أفكار الشاعر بحرية بأي طريقة يراها مناسبة. وتماماً كحال أوروبا، لا ينبغي لعلماء الدين ممارسة أي دور لتحديد شرعية المعرفة المنتجة. ويقارن حسين بلاده مع فرنسا، مجادلاً بأن عدم قدرة المرء على نشر أفكاره عندما تخالف السائد هو الذي يعيق ظهور العلماء العظماء. (56) وأدت هيمنة بعض طرق الدراسة «لجعل شعرائنا مجهولين، وكتابنا مجهولين، وأدبنا ككل مجهولاً. وحدث هذا لأن أولئك الذين يتحمّلون المسؤولية عن التعليم وانتشاره لا يريد أن يعرف الآخرون ذلك. وهم لا يعرفونه لأنهم لم يقرأوا حقاً أدبنا. أكثر من ذلك، لو قرأوه، أو قرأوا أجزاءً منه، فلن يفهموه تماماً». (57)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com