د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا أدري لماذا يصرُّ المجتمع بتحفيز من إعلامنا على تهويل أيام الامتحانات النهائية نهاية كلِّ فصلٍ دراسي؟ ولا أعرف الأسباب التي تجعل الناس ينظرون إلى هذه الفترة على أنها فترة رعبٍ وترويعٍ وتحذير؟ ولا أفهم لماذا يغرسون في فكر المواطن أنَّ هذه الأوقات وكأنها لحظاتٌ فاصلةٌ بين الحياة والموت؟ ولا أدلَّ على ذلك من ترديدهم لعبارات مثل (عند الامتحان.. يُكرم المرء أو يهان)! بل إنه ليس ببعيد أن يتمثَّل بعضهم بقوله تعالى: (قل إنَّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) وبقوله سبحانه: (واقترب الوعد الحق)، وكأنَّ حياة الطالب مرهونةٌ بأدائه في هذه الامتحانات.
أنا لا أقلِّل من أهمية الامتحانات، ودورها في قياس الطالب وتقويم استيعابه، لكن أن يُتعامل معها كأنها حالاتٌ طارئة، أو أن يتحوَّل معها البيت إلى غرفة عمليات، وأن يستنفر المنزل جميع أفراده لمواجهة هذا الشبح المخيف، فهذا أمرٌ يجب أن يُراجع، وأن يُنظر إليه بشيءٍ من المعقولية والمنطقية.
وأظنُّ أنَّ من أهم الأسباب التي جعلت كثيراً من الناس يتعامل مع الامتحانات بهذا الشكل قناعة تعليمنا بأنَّ الامتحان النهائي هو السبيل الأصدق في تقويم الطالب، وتسليم المسؤولين بأنَّ أداء الطالب في هذه الفترة هو الوسيلة الأدق في قياس مستواه والحكم عليه حكماً نهائياً بالنجاح أو الرسوب، وكأنَّ الطالب لم يدرس فصلاً كاملاً كان خلاله يأتي كل صباح، يحمل أرتالاً من الكتب، ويستقبل عشراتٍ من المعلومات، ويؤدي العديد من الواجبات والتمرينات، وكأنه لم يناقش أو يسأل أو يحلل أو يشارك، بل كأنه لم يفعل شيئاً في خمسة عشر أسبوعا، ليأتي الامتحان فيضربه ضربةً كبرى قد لا يفيق منها أبدا!
إنَّ تعليمنا بهذه النظرة القاصرة للامتحانات يلغي دور الطالب خلال أيام الدراسة، ويزيل -بجرَّة نظرةٍ كهذه- جهوداً بذلها وليالي سهرها، وإلا فما المنطق والمفهوم الذي ينطلق منه التعليم العام والجامعي حين يضع الدرجة الكبرى على امتحان اليوم الواحد، بينما يضع الدرجات المتدنية على الجهود المبذولة خلال أكثر من 100 يوم تقريبا؟ بل إنَّ بعض الجامعات تضع أكثر من ثلثي الدرجة على الامتحان النهائي، بينما جهد الطالب طوال الفصل مختزلٌ في أقل من ثلثها.
ثم ما ذنب الطالب المسكين الذي أخفق في ذلك اليوم الواحد بسبب ظروفٍ قاهرةٍ خارجةٍ عن إرادته مع أنه كان في قمة إبداعه ومنتهى اجتهاده طوال الفصل؟ وبأي حق يُهضم حقُّ الآخر الذي وصل ليله بنهاره ليتفوق في المقرر ثم يصاب بإعياء أو مرضٍ ليلة الامتحان أو في صباحه، فلم يتمكن من تتويج تفوقه وإبداعه؟ ولماذا يرسب الثالث الذي بذل كلَّ ما في وسعه في سبيل الحصول على الامتياز ثم يخفق في ذلك اليوم لأيِّ سبب، فتنهار معه كل أحلامه وأمانيه؟ وفي المقابل.. لماذا ينجح الطالب المهمل الكسول الذي لم يتعب نفسه طوال الفصل، وكان حينها كالكرسي الذي يجلس عليه، غير أنه اجتهد في ليلةٍ واحدةٍ فنال أعلى الدرجات؟ تلك إذن قسمةٌ ضيزى!
إنَّ طريقة التعليم الحالية في التقويم غير عادلة، بل إنها تغتال أحلام الطالب المجتهد وتقتل طموحاته، وتسهم غالباً في نجاح من لا يستحقُّ النجاح، ولهذا أرى أنَّ من أهم الإجراءات التي ينبغي أن تتخذ لإصلاح هذه الإشكالية أن توضع أقلُّ الدرجات على الامتحانات النهائية، وتكون البقية على أعمال الفصل موزعةً بين أنشطةٍ متعددةٍ قادرةٍ على قياس مستوى الطلاب وتقييم أدائهم بدقةٍ وحيادية، وهو ما يتطلَّب جهوداً من المعلم الذي يُنتظر منه الكثير في هذا المجال، وألا يكتفي بأسهل وسيلة تقويم تريحه من عناء هذه المهنة العظيمة!
إنَّ من أهم ملامح التعليم المتميز قدرته على قياس مستوى الطلاب على مدى فصل دراسي كامل وليس في يومٍ واحد، وأن يبتكر لهم وسائل تقويمية متنوعة تتجاوز ورقة الامتحان التحريري إلى إنجاز المشاريع البحثية، والأنشطة المشتركة، والتدريبات العملية، والزيارات الميدانية، وكتابة التقارير العلمية، إضافةً إلى الإلقاء والمناقشة والواجبات، وغيرها من وسائل التقويم التي تقيس مستوى أداء الطالب بعدلٍ ونزاهةٍ وإنصاف، ولكننا جيدون فقط في تسطير نظريات التربية وقياس الطالب وتقويم الأداء، نضعها وندرُسها وندرِّسها، ثم إذا جاء التطبيق نسينا كلَّ ذلك، ولم يبقَ لدينا غير الامتحان الذي طالما أهان كثيراً من الطلاب الذين يستحقون الإكرام.