محمد عبد الرزاق القشعمي
عند زيارتي لمدينة سكاكا بمنطقة الجوف مطلع عام 1437هـ 2015م قابلت أحد أبنائها الأخ فلحي عايد الفلحي من موظفي الدولة المتقاعدين، وكان آخر عمل قام به مدير عام فرع ديوان المراقبة العامة بالجوف بعد أن تنقل بين العملين العسكري والمدني في شرق المملكة وجنوبها وشمالها، وسجلت معه لقاء ضمن برنامج مكتبة الملك فهد الوطنية (التاريخ الشفوي للمملكة).
ضمن ما حدثني عنه ما امتاز به والده (عايد) في القرن الماضي من حصافة ونطاسة وخوض في جميع الأمور الطبية وفراسة مبهرة أعجبت أبناء المنطقة لذكائه وفطنته وتطوعه لعلاج من يتعرض منهم للأمراض المختلفة، وتركيب العقاقير الطبية لمختلف الأمراض، ولكونه الطبيب الشعبي البارز والوحيد وقتها إذ لم تعرف الخدمات الصحية المعروفة الآن.
وكثيراً ما يوفق ويحقق الله الشفاء على يديه، وهو بالتالي لا يشترط أجراً على ما يقدم من اجتهاد، ولكن من يشفى من مرضاه يجزل له الثناء ويهدي له المتيسر.. وكان يقدم هذه الخدمة للجميع بدءاً من أمير المنطقة وقاضيها وكبار أبنائها وصغارهم.
يذكر أن والده عايد بن فلحي البدر الطالب، المولود نهاية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي بقرية اللقائط قرب مدينة سكاكا وتوفي عام 1383هـ 1963م، وقد أخذ شيئاً من المعارف والعلوم الطبية الشعبية من والده -فلحي- إذ كان يعالج ويجتهد في علاج من يحتاج له. ولكن ابنه -عايد- قد فاق والده واشتهر عندما تعرضت كبرى بنات الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري في صغرها قبل نحو سبعين عاماً إلى انحشار حبة (فصفص) بذر القرع في أحد منخريها مما عرضها لكثير من المصاعب الصحية منها التهاب الحلق والأنف والعيون وسبب لها آلاماً شديدة، مما حمل والدها على التفكير بالسفر بها إلى المستشفى اليهودي بالقدس بفلسطين قبل أن تشتد الحرب بين العرب واليهود.
ولكن أحدهم أشار على الأمير بعرضها على الطبيب الشعبي عايد الفلحي، فاستدعاه، ولما عرف ما تعرضت له البنت واحضروها قام بحقن المنخر المصاب بقليل من الزيت وأغلق المنخر السليم، وأحضر ساق غصن شجرة القرع المجوف من الداخل ووضعه في فتحة الأنف المصاب ونفخ فيه بشدة فخرجت حبت بزر الفصفص وشفيت البنت، وحاول الأمير أن يكافئه فرفض وأصبح بعد ذلك ذا مكانة مميزة في مجلسه، وبدأ يستشيره في بعض الأمور التي تستدعي أخذ رأي من يثق به الأمير.
والقصة الثانية ما تعرض له الشيخ فيصل المبارك -قاضي الجوف وقتها- من مرض يسمى شعبياً (أبا الوجيه) شلل في الوجه، فتولى تدليك الوجه ووضع كاسات هواء، وقيل أنه ألصق قطعة رصاص في الشق الثاني السليم من الوجه وأوصاه بالنوم عليها.. وبإذن الله شفي وزال ما كان يشكو منه.
وقد اشتهر بعد ذلك بين أبناء المنطقة وغيرها وأصبحوا يستعينون به لمعالجة مرضاهم وذلك في مجال الطب الشعبي وبالتحديد في أربعينيات القرن الرابع عشر الهجري وما بعده.. وقد ذكر بعض ما استخدمه أو اكتشفه لعلاج بعض الحالات المرضية ومنها على سبيل المثال:
1/ أول من اكتشف التلقيح لمرض الجدري بالمنطقة في ذلك الوقت حيث اجتاح المنطقة مرض الجدري فتسبب بموت كثيرين، واثنان من أبنائه ماتا في يوم واحد وهو يسمع أن هناك لقاحاً للجدري لكنه لا يعرف شيئاً عنه، وهداه تفكيره لعمل لقاح تكلل بالنجاح، حيث قام بجمع الصديد الذي يخرج من تقرحات المصابين ويضعه على يد المحماسة ويضعها على الجمر ويتركه حتى يجف فيأخذ منه بأصبعيه ويضعه على ذراع الأصحاء ويفركه بأصبعه ويشرط فوقه بموس الحلاقة ويزيد عليه ويربطه وجميع من قام بتطعيمهم لم يصبهم المرض.
2/ أصيب أحد الأفراد برصاصة بندقية استقرت في عظمة وركه سببت له الشلل مع آلام شديدة، فحصه عايد الفلحي وقال أنت جمل والاّ حاشي؟ رد عليه وقال أفعل ما تؤمر وستجدني إن شاء الله من الصابرين. ذهب عايد إلى الحداد وطلب منه عمل محقان رفيع بساق طويله.. وعمل الحداد المحقان بالمواصفات المطلوبة وأحضر المحقان وكمية من الرصاص وضعها بقدر على النار إلى أن ذاب الرصاص وطلب من أربعة رجال الإمساك به ومنعه من أي حركة وأدخل المحقان مع مجرى الرصاصة إلى أن أحتك بها وسكب الرصاص بالمحقان وتركه إلى أن يبرد وحينما سحبه كانت الرصاصة عالقة به.. وشفي المريض.
3/ ذلك الشباب الذي أعياه المرض ولم يبق منه إلا العظم والجلد وحينما فحصه عايد طلب ماء وكمية من ملح الطعام، وذوب الملح بالماء وطلب من المريض شربه بالكامل فشربه وما هي إلا دقائق حتى استفرغ وظهرت أكياس مملؤة بالديدان كرر العملية ثلاثة أيام فشفي المريض.
4/ عايد متميز بتجبير الكسور لكن واحدة منها تلك البنت التي انكسرت ساقاها الاثنتان فقام بسحب العظام الخارجة من الجلد وجبرها ووضع عند قدميها لوح من الخشب مثبتاً بأوتاد وربط خفي الرجلين إليه بعد التجبير حتى يكون طولهما متساويين بعد الشفاء وشفيت البنت وصارت تمارس حياتها كما كانت.
5/ يمارس عايد الحجامة وهي نوعان. النوع الأول: استخراج الدم من الظهر والرقبة وكما كانوا يقولون (دم فاسد). والنوع الثاني: عبارة عن كاسات هواء مع التدليك بدون استخراج الدم وهو يستعمل مع من يصاب بشلل بالوجه والفم ويسمونه (أبا الوجيه).
6/ يمارس عايد جميع أنواع العلاجات ويخلط أنواع معينة وبكميات معلومة ولكل مرض علاجاته الخاصة ويقوم بعملية الختان والكي وخلع الأضراس ويحضر أدوية تفيد النساء اللاتي يتأخر حملهن.
ونجاحاته كثيرة حينما كان يمارس الطب الشعبي حدثت بها الركبان. إضافة لكثير من الحالات المماثلة والتي أشار إلى بعضها أبنه الأستاذ فلحي في كتابه أو على الأصح روايته (بنات الحي الشرقي) التي صدرت عن دار المفردات بالرياض عام 1432هـ 2012م.