ما كتبه إدوارد سعيد في (خارج المكان) يمثل سيرته الفكرية التي لا تقل عن أطروحاته الفكرية المهتمة بالتهميش الغربي للآخر العربي. ولعل ما كتبه يعتبر تطبيقًا لأطروحاته الفكرية في كتبه الأخرى (الاستشراق)، (الثقافة والامبريالية)، وغيرها من الكتب التي اهتمت بالذات والآخر أو دراسات التابع. وقد تدخل هذه السيرة الذاتية الفكرية ضمن رفض السلطة بكل أنواعها، سلطة الآخر وسلطة الوالدين، وحول هاتين السلطتين تدور أحداث هذه السيرة الفكرية. إنها تنطلق من داخل الذات إلى خارج المكان، من داخل الذات العربية المقهورة التي تنقلت بين العديد من الدول العربية بعد ترحيلها من مكانها الأم/ فلسطين؛ لتهيم بين القاهرة وأمريكا. وبين اللغتين العربية والإنجليزية اللتين أضاعت هوية الذات بينهما؛ مما جعله مشتتا بين هاتين اللغتين اللتين أتقنهما منذ صغره.
ونلحظ هذه العلاقة التسلطية في العديد من مراحله العمرية منذ صغره وهو طالب في المدارس الإنجليزية مع أستاذه (بولين) الذي ضربه ثلاث ضربات على مؤخرته «بخيزرانة قصيرة تقع في منزلة وسطى بين مهماز الخيل والعصا القصيرة» (خارج المكان ص 69). وتستمر هذه السلطة من الأساتذة الغربيين على إدوارد/ العربي مع معلمته (ويليس) التي أثرت على أفكار أمه في مدى ضعف (إدوارد) التحصيلي وضعف شخصيته مما أقنعت أمه بالكثير من أفكارها «ولم يخطر في بالي أن أسألها لماذا تحالفت بهذه الطريقة العمياء مع شخص لا تحركه الاعتبارات التربوية، وإنما تحركه النوازع الغريزية والسادية». وهذا الذي جعله يقول: «بلغ بي الأمر حد كراهية تلك الهوية (يقصد العربية)، لكني لم أكن أملك بديلاً عنها» (خارج المكان ص 121). ولم تقتصر هذه العلاقة التسلطية الهامشية للعربي/ إدوارد في طفولته وصغره، بل امتدت إلى كل أطراف حياته العمرية؛ ليجدها أخرى مع المضايقات التي كانت تواجه أمه عند دخول أمريكا؛ لأنها لا تحمل غير الجواز الفلسطيني (خارج المكان ص 157).
وقد راوحت السلطة بين مركزين: مركز الآخر ومركز الأب، فتنوعت السلطات عليه بين خارج المكان/ المنزل مع الآخر الذي لاقى منه الكثير من العنت، وداخل المكان/ المنزل مع والديه اللذين كانا شديدين في سلطتهما على ابنهما (إدوارد)؛ مما جعله يعتبر اقتناء أبيه كاميرا حديثه «وسيلة توسلها أبي لإلقاء القبض على الحيز العائلي المنظم وتكريسه، وهو الحيز الذي صنعه، وبات يتسلطن عليه الآن» (خارج المكان ص 108). وتمتد هذه العلاقة السلطوية بين الأب وابنه إدوارد على مدى سرد سيرته الفكرية الذاتية على حياته الشخصية بحجة حسن التربية حتى وصل به الأمر إلى كبته الجنسي «أو بالأحرى الحظر الذي ألقاه أهلي على تدخله في حياتي، وتعطيلهم لمفاعيله حين لم يكن في مقدورهم طرده منها» (خارج المكان ص 100).
ولهذا فإن (إدوارد) يكتب (خارج المكان) عن (إدوارد) ذاته، وهو قول بأن إدوارد يعيش علاقة التهميش بين الداخل/ الأسرة والخارج/ الآخر. ولعل هذا هو الحافز الأكبر له ليفكر ويحلل فلسفته حول (الاستشراق) ودراسات التابع، فما هي إلا نبذ للسلطة القمعية التي سيطرت على (داخله وخارجه).
- صالح بن سالم
_ssaleh_ @