ياسر صالح البهيجان
التحول الكوني نحو العولمة التكنولوجية شكَّل صدمة حضارية للمجتمعات المحافظة غير المعتادة على الاحتكاك بالثقافات الأخرى، وأوجد ردة فعل موسومة بنزعة نحو الانغلاق في ظل سيادة فكرة ترى في الآخر كائناً متوحشًا واستعماريًا يضمر رغبة في طمس هوية تلك المجتمعات، وقيادتها نحو التخلّي عن قيمها ومبادئها الأخلاقية والدينية.
العولمة الرقمية تجاوزت حواجز الخصوصية المحلية، وأسست لمبادئ أخرى مشتركة تؤمن بأن الإنسان في أي بقعة من العالم يحمل ذات الحقوق والواجبات إزاء الجنس البشري برمته، ورغم وجاهة تلك الرؤى المتعولمة، إلا أنه من العسير أن تتقبلها المجتمعات المحافظة؛ لاعتقادها بأن نظامها الاجتماعي لا ينطوي على أية علّة، لذا هي ليست ملزمة باتباع أي تحولات مستحدثة ليست مستمدة من تراثها وحضارتها.
الإشكالية الكبرى التي تواجه أي مجتمع محافظ في زمن العولمة هي عدم قدرته على الانسجام مع التحولات الراهنة التي تأتي كنتاج طبيعي لتطور الفكر الإنساني وتراكم المعرفة، إضافة إلى حالة التوجس غير المبررة التي يكنها أفراد تلك المجتمعات تجاه أي منجز جديد لم يكن لأسلافهم عهد به، وهم بهذا الخيار يرفضون التقدم البشري، ويظلون يراوحون مكانهم على الأصعدة العلمية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، ويفقدون القدرة على مسايرة ركب النمو الإنساني والترقّي نحو الحضارة الحديثة والتحضر الرقمي.
الانكفاء على الذات ليس حلاً، بل عادة ما يأتي بنتائج عكسية تسهم في عزلة المجتمعات، وتضعف دورها الثقافي والحضاري في سيرورة بناء الحضارة المعاصرة، لتتحول من الفاعلية والإنتاج إلى الركود والخواء، والحالة هذه تفرض ضرورة إعادة النظر في العوامل الدافعة إلى رفضة التعايش مع المعطيات العولمية الراهنة أياً كانت مصادرها، والإيمان بأن الانفتاح على الثقافات المغايرة لا يفضي بالضرورة إلى زعزعة القيم والثوابت، ما دام انفتاحًا واعيًا ويسير وفق منهجية رزينة ذات طابع انتقائي تختار بدقة ما من شأنه إحداث تجديد فكري ومعرفي دون المساس بالأصالة والتراث والمقدس.نماذج عالمية متعددة استطاعت احتواء التقدم العلمي والمعرفي والاقتصادي دون أن يقتلع التغيير جذور موروثها وعاداتها، ومن تلك النماذج المجتمع الصيني، إذ لا تزال المرأة الصينية ملتزمة بالزي التقليدي، والشاب يرفض التحدث بأي لغة غير اللغة الصينية، وكذلك طقوس الزواج والأعياد والمناسبات الرسمية، جميعها تحتفظ العادات الصينية التقليدية، ورغم ذلك تعد الصين من أقوى الاقتصادات العالمية، وإحدى أكثر الدول نموًا تكنولوجياً ومعرفياً، ولديها ترسانة عسكرية هائلة، فضلاً عن امتلاكها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي.
تجربة المجتمع الصيني تستحق أن تحتذى على الصعيد العربي، وأن تبدأ المجتمعات العربية المحافظة بالانفتاح على الآخر بالقدر الذي يجعل منها مجتمعات مؤثِّرة إقليمياً ودولياً، وتتمكن أيضاً من مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية في الجوانب الأمنية والاقتصادية والمعرفية؛ لتفرض وجودها في ميادين التنافس العالمية بوصفها قوة حضارية حديثة لديها ماض مجيد وحاضر مزدهر.