د. عبدالحق عزوزي
رؤية المستقبل أضحت اليوم صعبة جدا وتحديد معالمها أصعب مما يمكن تصوره؛ والعالم أصبح أكثر ضبابية مع انتهاء الحرب الباردة وتقلص الدور الروسي في العالم ونهاية الثنائية القطبية وانتقاله إلى الأحادية الأمريكية حيث القوة الاقتصادية والقوة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية واللغوية والثقافية بدت مجتمعة في كيان واحد ومظلة واحدة تتعدى قوة العديد من الدول مجتمعة بل والعديد من القارات؛ والسؤال المطروح هو مدى تأثر العالم العربي بالتحولات العالمية قبل أن يتأثر هو نفسه بالتحولات العربية نفسها؟ المشكل في العالم العربي هو أنه يقع في منطقة حساسة جدا، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جدا لأنها تتوفر على مخزون هائل من النفط متوفر تحت صحرائها وبمنطقة جغرافية حساسة بسبب جيرتها المباشرة بالكيان الصهيوني؛ فاجتماع هذه العوامل جعلت المنطقة العربية في جوهر الشأن الدولي أو الإستراتيجية الدولية؛ والمشكل الآخر هو أن المنطقة العربية رغم هاته العوامل المحددة لتموقعها داخل النظام الدولي هي لاعب غير قوي بسبب غياب الوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها بمجاراة التكتلات الجهوية والإقليمية والدولية؛ ثم المشكل الثالث هو بداية تفكك بعض البلدان العربية ودخولها في متاهات لا متناهية كما هو شأن ليبيا والعراق وسوريا وهلم جرا. كما أن بعض البلدان الأخرى التي عرفت تغيير النظم لم تعد الثقة قائمة بين الأفراد والمؤسسات وهو ما ينذر بسنوات عجاف إذا لم تصلح الأمور في الإبان...
فزرع الثقة بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة والمجتمع في مجتمعات كتونس من أولويات الأولويات، لأن على الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة بالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهبة الدولة ولمبدأ ديمومة المؤسسات، ويمكن أن نستحضر تجربة العراق عندما قامت القوات الأمريكية بحل القوات العسكرية والبوليسية العراقية بعد سقوط نظام صدام كيف تفككت الدولة العراقية في رمشة عين وأصبحت الدولة ولا تزال مرتعا للتناحر بين الطوائف والملل؛ فكل التجارب السياسية التي مرت منها دول أوربا الغربية والشرقية وأمريكا اللاتينية كانت صعبة وشاقة، ولكن محدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين الأحزاب وبين المؤسسات بل وبين الأفراد وحاملي لواء تسيير الدولة وأجهزته؛ ولأنه إذا تقوى الشك وانعدمت الثقة بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجتمع عمت الفوضى وتلاشت الفضائل السياسية في المجتمع دفعة واحدة، فلا الفرد يثق في الحزب ولا المؤسسات ولا قدرتها على التسيير والتنمية ولا هبة الدولة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرقبة، فينغمس المجتمع في القيل والقال ويغرق في بحر الهم والجدال ويبعد رجالات الدولة الأكفاء عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي تبخرت ويهتري النسيج الداخلي الماسك لمقومات الأمن والاستقرار والميسر لقواعد التنمية المستدامة والحكامة الجيدة، ويضيع الوقت الثمين في بناء المؤسسات وتعميم الأمن والاستقرار؛ فبعض الدول ينبغي على الفاعلين السياسيين فيها حسن الظن بالمؤسسات والأفراد وطي صفحة الماضي وترك زرع بذور الشك المستمر في أذهان الناس وعقولهم احتياطا من الريبة والسخط وأمارات التوتر والنفور بل الوصول إلى حد التقاتل المشين ؛ فهذا مخالف لأدنى شروط العقل والتعقل ومورث للريبة والشك داخل المجتمع ومقوض لأسس تجذير عوامل البناء داخل المجتمع، وتصبح قشرة الدولة الحامية مفقودة وسورة الغلب من الكاسر ممنوعة وشارة الغلب معدومة فترتفع وثيرة المنازعة داخل المجتمع وينتبذ الناس الساسة وأتباعهم....
آخر الكلام : في إطلالة أخيرة بصفته رئيسا للولايات المتحدة، ألقى باراك أوباما خطابه الأخير من مدينة شيكاغو، التي شهدت انطلاقته السياسية، وتطرق أوباما إلى مجموعة من الإنجازات التي طبعت فترة حكمه كرئيس للولايات المتحدة لولايتين متتاليتين، ولكن ما شد انتباهي في خطابه هو تأكيده لمرات عدة على مسألة الوحدة أي الثقة التي يجب أن تسقى بماء الذهب في بلد سيعمر البيت الأبيض عمار جدد يصعب معهم تحديد معالم المستقبل داخليا وخارجيا، فالتحدي الكبير يعني «إما أن ننهض كلنا أو أن نسقط كلنا»، لذا دعا الأمريكيين إلى الوحدة «أيا تكن اختلافاتنا»، وهاته هي القاعدة الأساس في بناء أو استمرارية الدول.