رمضان جريدي العنزي
العراق أكله الحريق واحترق، اصطبغ بالدم حد الخاصرة، لا دجلة العراق دجلة، ولا فرات العراق فرات، ولا نخيله نخيل، وصدره فاض بهول الفاجعة، الدم فار به، حدائقه انكسرت أشجارها، وتوغلت فيه الأفاعي لتنفث في جسده الطري سمومه الفائضة، العراق صار مثل شجرة في صحراء نائية، لم يعد العراق عراقاً، ولا ذلك التاريخ تاريخاً، ولا الرشيد رشيداً، ولا الجواهر جواهرياً، ولا الشعر الذي كان في حاضرة تاريخه شعراً، ولا رواياته رواية، حدائقه لم تعد وارفة، ريحه صخب، ونخله كئيب، وقطوفه لم تعد دانية، ومكتباته التي كانت العامرة لم تعد عامرة، العراق صار مثل بيداء قاحلة، أو عجوز بالسن طاعنة، لم يعد بالعطاء ينبض، وحتى ضوءه لم يعد ضوءاً، وألوانه لم تعد زاهية، حين سباه ذاك الغجري الأحمق، وسفه بالغدر، حتى عاد بالدم والسواد غارق، كان العراق أبيض مثل زنبقة، له وجد، وبوح، وأحلامه على وجه الصباح ناثرة، هو الآن مثل حجر، لم يعد مثل فجر، حين غزاه الغجر، هو الأخضر كان، والزهو والماء والسندس والوسن، صار الآن من الجراح ينزف، ومن بنادق الغزاة يرتجف، غادره الحمام واليمام، وبقى اللص في حضنه الدافئ ينام، يعبث بشعره الطويل، ويغرق معه في الكلام، لم يعد العراق كما كان مهابة، يستقرئ الأبعاد، أو يستلهم الأنواء، أو يستسقي الأصداء، صار بفعل الأعجمي الغريب دميماً، بيد الغزاة يبحث عن قرار، كان العراق شروقاً ولا يعرف الغروب، وفيض عطاء، كان قصيدة عمود ونثر، سرير فضة، وأعواد قصب، وحنطة ومواسم وماء، وفيه قمح يشبع الإنس والجن والجراد، كان العراق لا ينام، مطلقاً لا ينام، مثل شمس وقمر يتبادلان المقام، لكن العراق هاجمه الريح الغريب استوطنه فانكسر، قلع سنابله، شطر قلبه، أخفى معالمه، وأرجعه لزمن العويل والردح والبكاء، ما عاد العراق يعزف الناي، ويعزف العود، وحتى عيون المها التي بين الرصافة والجسر لم تعد عيون، بعدما سرق منه الغريب كنزه وحده وإرثه، صار الحزن لا يليق إلا به، كلما فصل له فرحاً، جاءه الغريب ليزيد له الحزن والشقاوة، ويغتال في ثغره الابتسامة، الغزاة اللصوص حفروا في أرض العراق القبور، وزينوا فيه اللحود، حتى امتلأت أرضه بالوجع وبالشقوق والدود، العراق الذي خرج من أرضه العلم، وخرجت منه الحضارة، أجبره الغازي والمتواطئ اللعين على ترك العلم وترك الحضارة، صار مقبرة تعيش فيها المقابر، ولوحات إبادة، عراق يا عراق، ستبقى عند العرب في مكانتكعراق، ستبقى مرايا، ووردة حمراء، وموعداً في الزحام، وصوت أليف، وطيف يمر في الدماء، ستكون للعرب، وحدهم العرب وحقاً لهم، فمهما حصل لن تنكسر يا "حباب" يا بوح القصيد يصاعد أفعواناً من أرض الكرامة، يا طريقاً للقمر يسلكه العرب، عراق يا عراق، يا صوت اغتراب البلابل، وبيض المفردات، يا دفء الصباحات، يا أصل الحكاية، وفصل الرواية، ولون الحقول، يا معنى الحياة، لا تنزعج من تأخر الصباح عن قدومه في الميعاد، سيجيء الصباح كما تشتهي ويشتهي العرب، ستجيء مثل غيمة، وتعطي مثل سنبلة، عندها سأشدو على صحو الخبر، وأقول لك ما لم تقله الحكاية، وأتلو عليك تفاصيل كثيرة، وأخبرك كيف أخذ ذاك المتواطئ مع اللص شكل الخيانة، كيف حاولوا معاً بيعك في سوق النخاسة، كحسناء بهية، عراق يا عراق، لا تجزع يا عراق، ستنبعث من الرماد، وسيصبح الرماد في المتاحف، مزاراً تشاهده العيون، ستبقى يا عراق شموخ وعزة وبهاء، وسيفر الأوغاد من أرضك طرائد يبحثون عن ملجأ أو مغارة أو إيواء.