د. محمد بن إبراهيم الملحم
استمراراً لحديثي عن التقويم التربوي وأهميته في قيادة التغيير التربوي، ففي مقالتي السابقة تحدثت عن أول ملمح ليتحقق دوره، وهو رعاية الجامعات للتخصص. أتحدث اليوم عن ملمحي: توفير المتخصصين في وزارة التعليم (ويشمل ذلك التعليمين الفني والعالي) ودورهم المرتقب، وهو الأمر الذي كانت الوزارة تنظر إليه بشيء من الاهتمام في فترة ما، فأنشأت الإدارة العامة للقياس والتقويم، كما حرصت أن يدير الإدارة العامة للاختبارات متخصص في القياس لا إداريين بحتين كما كان سلفاً. ولكن سرعان ما تطايرت هذه الرؤية بتغير الحقيبة من وزير إلى آخر، وحتى في ذلك العهد الطموح لم يرتق دور التقويميين إلى تكامل كلي مع مختلف التخصصات، فلا وجود لهم في المناهج ولا الإشراف ولا وسائل التعليم إلا بمصادفة وجود شخص متخصص في التقويم ضمن الفريق.
إختصاصي القياس والتقويم المتمكن يجب أن يوفر في كل إدارة من إدارات الوزارة بصلاحيات تمكنه من تفعيل دور القياس والتقويم التطويري لتلك الإدارة ومنتجاتها (وقل هذا عن التعليم الفني والجامعي بالطريقة نفسها)، كمثال، فإن الإشراف التربوي يبني أدوات كثيرة يقوم عليها عمله، وأغلبها تحتاج إلى عين قويمية فاحصة تضع موازين تلك الأدوات على محك المعايير العلمية لتكون مصداقيتها محل ثقة، كما أن الدراسات التقويمية تكاد تكون الركن الأساس للإشراف بمفهومه الحديث، وهذا لا يقوم إلا بخبرات متخصصي القياس والتقويم الذين يعملون جوار المشرفين فيقدمون أدوات علمية سليمة تدعمها قراءة استثمارية للنتائج، وقس على هذا المثال بقية إدارات الوزارة. إن دور القياس والتقويم يتعدى الوزارة إلى إدارات التعليم، والتي ينبغي أن تقوم على القياس المستمر، فهو أداة تأكيد الجودة Quality Assurance، ذلك أن الأقسام الفرعية بتخصصاتها تحتاج إلى قياس لأدائها، والمدارس بتنوع أدوارها (الإدارة والقيادة - التدريس - الأنشطة - التوجيه والإرشاد) تحتاج إلى القياس المستمر للتوجيه والتحفيز، وكذلك قياس أداء الطلاب بالاختبارات المدرسية الذي هو خلاصة العمل المدرسي يحتاج إلى فحص الجودة والدراسات والتطوير، وكل ما تقدم يعني ضرورة توفر إختصاصيي القياس والتقويم المؤهلين تأهيلاً عالياً والمدربين تدريباً مهنياً نوعياً، يمكنهم من تقديم المستوى التطويري المنشود في كل إدارة تعليم. هناك بعض أنشطة من هذا النوع في عدد محدود من إدارات التعليم، لكنها أيضاً محدودة بعدد المتخصصين (الذين ساقهم الحظ هناك)، ومحدود نوعياً بمستوى ما يقدمونه وهو انعكاس لتدريبهم في جامعاتنا بمستوى «حد الكفاية الأدنى» على أحسن تعبير، وهنا أؤكد ما ذكرته سابقاً بضرورة إعداد متخصصي القياس بتدريب خارج المملكة بطريقة Internship في مؤسسات تقويمية دولية مرموقة (مثلاً ETS بأمريكا أو AQA في بريطانيا أو ANZTB في أستراليا).
وأخيراً، فإذا توفر كل ما تقدم: من حسن تأهيل للمتخصصين بواسطة الجامعات مع نشرهم في المجالات المختلفة بواسطة الوزارة، فإنه غير كاف دون الملمح الثالث ألا وهو تفعيل الدور أو التمكين empowering، فالقيادات التقويمية يجب أن يكون لها حضور فاعل في اللجان العليا ومجموعات العمل المهمة، كما أن المنتجات التقويمية من أدوات وتقارير ودراسات ينبغي أن يكون لها احترامها وقيمتها لدى صناع القرار، أما استمرار متلازمة «أنا أبخص» فهي وراء إحباطات كل الجهود التعليمية عبر تاريخ مؤسساتنا التعليمية: فيجتهد المخلصون المتخصصون والخبراء ليل نهار ليقدموا رؤية أو دراسة أو توصية بنيت على أسس علمية، فينتهي بها الأمر في اجتماع واحد فقط وبقرار شخص واحد أو اثنين بوضعها جانباً، وغالباً لا يكون الأمر بهذه الصراحة الفجة لكن يأخذ شكلاً أو آخر فيُنسى الموضوع ... وما السبب؟ لا تسألوني عن مبررات أو مزيد تفاصيل فـ «أنا أبخص».