د. خيرية السقاف
أبطال الميدان يضعون أرواحهم على كفوفهم, لا وقت لديهم للتفكير فيمن سيرضى ويمدح, ولا فيمن سيغضب ويقدح, فهم مشغولون بغاياتهم, ملزمون بأهدافهم أن تكون الأوطان مآل تضحياتهم, فهي محور أرواحهم, ولا أغلى من الروح سوى الوطن, ولا وطن للروح سواه..!
في بلادنا ليس لدينا تجارب مع الحرب, حتى تلك الأيام التي مرت بنا عند حرب الخليج, كنا نتعرف فجاءة الخوف, وقلق الحدث, وتفاصيل ليست في خبرتنا عن أبواق النداءات التحذيرية, وأبواق مكبرات إنذارات التنبيهات, نوافذنا المشرعة للهواء بالكاد كانت تستسلم للإغلاق, نطوقها بعازل عن الرائحة الخانقة أو القاتلة دون أن يتسلل إلينا زفير القنابل, ومقذوفات الصواريخ, بل كانت أصوات الصواريخ تنفث فينا فضول الاكتشاف فنهرع للأسطحة, ونخرج للشوارع لنرى بقايا حطامها, نتقافز فرحاً أن أسقطها جنودنا, ونتعجب من فداحة السواد يملأ صدور من وجهها إلينا فدك بعضها لنا بيوتا, وأبنية مؤسسات, وأسقط جثثا, وجرحى, وبقينا لحمة نستقبل جارنا, ونفرغ له البيوت, والمدارس, والشوارع, والصدور, نشاركه اللقمة, وقطرة السقيا..
وفي الطرقات نلقي التحية لجنودنا, نقدم لهم الورود, والدعاء, نظللهم بأرواحنا ومشاعرنا..
تلاحمنا حتى غدت طرقنا الطويلة تلمنا في عصبة جسد لكل الأرواح, ووطن لذات واحدة..
وإلى أن أرخت الحرب هناك أسلحتها بقينا على قلب واحد, قلنا: لنتعلم الكثير من الدروس, ومضت بنا الأيام, وعدنا لحياتنا الاعتيادية, كثيرنا نسي, وانخرط في لهاث الحياة, وأمنت نفسه غدر الخفافيش, وأن نتقي المكر, ولا نودع ثقتنا إلا بمقدار, ولا نطمئن لما وراء ظهورنا إلا بمصباح..
وقليلنا بات يفكر, يدبر, ويعد ويستعد, لأن طاحونة الحرب تتلمظ في الخفاء, والقائد المحنك لا يرخي عزيمته, ولا يؤخذ في غفلة..
كان يعد جيشه, يدرب جنوده, يصنع للوطن ترسانة من قلوب قوية بعزمها, وسيعة بثقتها, كبيرة بوطنيتها, وحين كشر العدو عن أنيابه وبدأ ينهش في الظلام بعضاً من طمأنينتنا, فجر ودمر, ومكر بغافلين غر, وأثر فيهم فاستهواهم, وجندهم لأهدافه, وغاياته, ودس سمه في عسلنا.
عاد يريدنا بسوء ينهش في الخفاء, ويزيد في الطبخة, ويدس أنفه في الظهور, فالتفتنا لنجد شبابنا الجنود يبهروننا بصنيعهم, بمهاراتهم, بوطنيتهم, بفدائيتهم, بتمكنهم بمعرفتهم, بعلمهم محاربون أشداء, مهرة يمكرون بالطغاة, محنكين في الميدان, يصابون فيقفون, يقاتلون بنباهة وشراسة, يحمون النائم والكبير والرضع والركع, كلنا في حياتنا الاعتيادية وسعينا الطبيعي, وهم ساهرون على الحدود, لا يغفلون حول البيوت, لا يتقاعسون عند الحركة ومصدر الريبة, في المنافذ والمداخل, خلف الأسوار وتحت العرائش, في الأنفاق وعند النداء..
تعج بهم مفاصل الوطن, هم الدروع ونحن المنعمون..
من أول المكافحة لآخر المنافحة.. بين أيديهم يسقط الجناة قتلى, أو مكبلين, ويتباهى الوطن..
من هؤلاء الكثر, كان آخر الأسماء مشعاً بصنيعه جبران العواجي... «يتبع»..