من المعلوم أن المال ضرورة في الحياة، فبه يجلب الناس مصالحهم، ويستدفعون الضرر عن أنفسهم، وبه تقام العبادات والمعاملات، ويتعفف الناس عن ذل السؤال.
وهو زينة من زينة الحياة التي أوكل الله تعالى حبه في الفطرة الإنسانية، فحب المال غريزة في فطرة الإنسان، وهذا ما أكده لنا رب العزة سبحانه وتعالى، حيث قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
وينظر الإسلام للمال على أن حبه والرغبة في اقتنائه دافع من الدوافع الفطرية التي تولد مع الإنسان وتنمو معه {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، وقال جل شأنه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].
وقضية الرزق - كما لا يخفى- من القضايا التي تشغل بال الكثيرين، فما من أحد على وجه البسيطة إلا من رحم الله إلا وهو مهموم برزقه، مشغول به، دائم التفكر فيه.
ومن سنن الله في هذا الكون أن يكون هناك تقلبات ومد وجزر في أحوال الدول واقتصادها بل يمكن اعتبار التقلبات الاقتصادية، والأزمات المالية أحد قوانين الحياة.
والمقصود بالأزمات المالية: الاضطراب الذي يحصل في بعض التوازنات الاقتصادية، ويتبعه انهيار أو تذبذب في عدد من المؤسسات المالية تمتد آثاره إلى القطاعات الأخرى.
ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية قد فطرت على الاشتغال بالرزق، لتأمين حياة كريمة لها ولأسرها وأبنائها، وقد يشق على بعضهم تدهور الظروف الاقتصادية من حوله والتي يشهدها العالم أجمع، فما أحوجنا اليوم - دولاً ومؤسساتٍ وأفراداً- إلى تأمل المنهج الإسلامي الفريد في إدارة الأزمات المالية، وتطبيق سياسته، وتحقيق معالمه.
وسأتطرق في ثنايا هذه الكلمات إلى أبرز تطبيقات المنهج الإسلامي في إدارة الأزمات المالية:
فمنها أولًا: اليقين بأن الدنيا لا تدوم على حال:
فمن سنة الله جلّ وعلا في الأيام والأحوال أنها لا تقر على أمر دائم بل هي سريعة التقلب والزوال، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، فمن المحال دوام الحال فالحال تتقلب وتتغير وهذه من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه.
ثانيا: الثقة بوعد الله ورزقه لخلقه:
فإن العبدَ إذا أيقن بأن الأجل محدد، وأن الرزق مقدر، واطمأن قلبه بذلك؛ فإنه لن يجزع من فقر أصابه، أو جائحة أتلفت ماله، ولن يشغل نفسه بالدنيا عن عمل الآخرة؛ لأنه يعلم أنه مهما سعى واجتهد وأجهد نفسه فلن يكتسب إلا ما كُتب له.
ولاسيما إن كان يفقه قول الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت:60].
ثالثا: اللجوء إلى الله تعالى واستغفاره، والاستعانة به:
فإن ملاذ المسلم دائما وأبدا في أي نائبة هي اللجوء لربه سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستعانة به سبحانه وتعالى، واستغفاره.
والله -عز وتعالى- عند ظن عبده به، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له: «يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي»، فقال له: «يا أبت من مولاك؟ «فقال: «الله»، قال عبد الله: «فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه».
رابعا: ومن التطبيقات الشرعية لإدارة الأزمات المالية التي أسس بنيانها، ورسخ دعائمها المنهج الإسلامي الفريد «حسن التدبير في المال»:
فالعاقل الفطن هو من يحسن إدارة أمواله، فحسن التدبير من تمام الحكمة، يقول أحد السلف: «حسن التدبير مفتاح الرشد، وباب السلامة الاقتصاد».
خامساً: القناعة بالقليل فهي سبب من أسباب البركة. وقد روي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه).
سادساً: ومن الوسائل العملية المعينة على إدارة الأزمات المالية:
1- الحرص على العمل وزيادة الدخل:
فمما ينبغي على المرء إذا نزلت به نازلة، أو ضائقة مالية أن يسعى إلى إثراء مصدر دخله وتنويعه، فلا يعتمد على مصدر واحد، وعليه ألا يحتقر أي عمل كان، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- اشتغل برعي الغنم، ومن قبله عدد من أنبياء الله «عليهم السلام». وما أسعد المسلم، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة، فيعمل ويتصبب عرقه، فيزكيه ذلك العرق ويطهره من فضلات الكسل وجمود النفس، ويكسب الكسب الحلال الطيب، وتستقيم يده، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم، ويدخر لنفسه، ما يحتاج إليه في غده. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فالإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا، مؤديا دوره في الحياة، آخذا منها، معطياً لها {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
2- ومنها: ترشيد الإنفاق:
فمن الضروري في حال الأزمات المالية أن يُرشد الإنسان طرق استهلاكه، فيقدم الأهم على المهم، وما هو ضروري وعاجل على ما حقه التأخير والتأجيل.
ومن ذلك ترشيد الاستهلاك في عدم الإكثار من المباحات، ووسائل الترفيه، بل ينال المرء ما يحتاج منها باتزان واعتدال.
ومن مسالك الترشيد تقليل المصاريف الاستهلاكية، فإن منهج الإسلام تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادة ولا تبصُّر إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع تقليداً لغيرهم، أو للتباهي بها عبر شبكات التواصل الاجتماعي ونحوها.
3- ومن الوسائل المعينة على إدارة الأزمة المالية: الحذر من الاقتراض والاستدانة:
فمن أهم الأمور اللازمة حتى لا تتراكم الأزمة: أن يتجنب الإنسان الاستدانة قدر استطاعته، فالدَّين مشروع لكن العاقل لا يَعمد إليه إلا في حال الاضطرار الشديد، شريطة أن يكون لأجل توفير الاحتياجات الضرورية، وليس توسعا في المصاريف الاستهلاكية أو المستلزمات الكمالية، لأن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
ثم إن من أجل الوصايا وأنفسها بعد ذلك أن يُفرغ المؤمن قلبه مما في أيدي البشر، وأن يُيَمم وجهه شطر رب البشر، فخزائن الرزق بيده، ومفاتح العطاء في كرمه، فثق به كما أمرك، يساق لك رزقك كما وعدك.
- مستشار شرعي وإمام وخطيب جامع خادم الحرمين