في عصر يوم الاثنين 27-3-1438هـ وارينا الثرى أستاذنا وزميلنا المربي القدير والأستاذ الأريب الأديب حسين بن مبارك الفايز -رحمه الله رحمة واسعة-، بعد أن صلينا عليه صلاة الجنازة.
عندما وصلني خبر وفاته لم أستطع استيعاب وتصديق الخبر خاصة أني أعرف أنه بصحة وعافية، عندها تذكرت قول المتنبي في رثائه لأخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
تذكرت عندها قول الباري المحيي المميت عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، {فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.}
إننا في هذه الدنيا سائرون إلى الله كل يوم نقترب فيه من آجالنا:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يومٍ مضى يُدني من الأجل
وكثير منا يغفل عن هذه الساعة مع إيماننا ويقيننا بها، كما قال البارودي في رثائه لأمه:
وَمنْ عَرفَ الدُّنْيَا رَأَى مَا يَسُرُّه
منَ العيشِ هماً يتركُ الشهدَ علقما
وَ أيُّ نعيمٍ في حياة وراءها
مَصَائِبُ لَوْ حَلَّتْ بِنجْمٍ لأَظْلَمَا
إذا كانَ عقبى كلَّ حيًّ منية ٌ
فَسِيَّانِ مَنْ حَلَّ الْوِهَادَ، وَمَنْ سَمَا
وَ منْ عجبٍ أنا نرى الحقَّ جهرة
ٌوَنَلْهُو، كَأَنَّا لاَ نُحَاذِرُ مَنْدَمَا
يودُّ الفتى في كلَّ يومٍ لبانة
ًفإنْ نالها أنحى لأخرى، وصمما
أَرَى كُلَّ حَيٍّ غَافِلاً عَنْ مَصِيرِهِ
وَلَوْ رَامَ عِرْفَانَ الْحَقِيقَة ِ لانْتَمَى
فَأَيْنَ الأُلَى شَادُوا، وَبَادُوا؟ أَلَمْ نَكُنْ
نحلُّ كما حلوا، وَ نرحلُ مثلما ؟
مَضَوْا، وَعَفَتْ آثارُهُمْ غَيْرَ ذُكْرَة ٍ
تُشِيدُ لَنَا مِنْهُمْ حَدِيثاً مُرَجَّمَا
فبينما الإنسان ملء السمع والبصر إذ بيد المنون تتخطفه، وساقي الموت يسقيه من كأسه التي شرب منها الأنبياء والمرسلون والملوك والسوقة والغني والفقير وأن الإنسان كما قال حافظ إبراهيم:
وأنه وارد لا بد مورده
من المنية لا يعفيه ساقيها
وكما قال أمير الشعراء:
خُلقنا للحياة وللمماتِ
ومن هذين كل الكائناتِ
ومن يُولد يعش ويمت
كأن لم يمر خياله بالكائناتِ
ومهد المرء في أيدي الرواقي
كنعش المرء بين النائحاتِ
هي الدنيا قتالٌٌ نحن فيه
مقاصد للقنا والمرهفاتِ
وكل الناس مدفوع إليه كما
دُفع الجبان إلى الثباتِ
ولو أن الجهات خُلقن سبعاً
لكان الموتُ سابعة الجهاتِ
وهذه المصائب بالأحباب تذكرنا بأن هذه هي طبيعة الدنيا:
طُبعت على كدرٍ وأنت تُريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومُكلف الأيام ضد طباعها
مُتطلب في الماء جذوة نارِ
تتصرَّم الأيام والليالي والسنون وكأنها لحظات، وكأن ما مضى منها خيال أو حلم، كأننا في هذه الحياة نائمون، وكأن الموت هو اليقظة.
فَالعَيشُ نَومٌ وَالمَنِيَّةُ يَقِظَةٌ
وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالِ ساري
وَالنَفسُ إِن رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت
مُنقادة بِأَزمَّة الأَقدارِ
ولقد كان لي شرف معرفة ومزاملة الأستاذ القدير والمربي الفاضل والشاعر الرقيق حسين الفايز من عام 1412هـ عند تعييني معلماً في المعهد العلمي بعنيزة، حيث كان يزخر بنخبة من علماء الشريعة واللغة العربية، وأساتذة فضلاء في شتى التخصصات وانعقدت بيني وبينه معرفة وصداقة استمرت إلى وفاته - رحمه الله -، مجالسته لا تمل، يأسر سامعيه بأدبه ولطافته، وفكاهته وبديهته الحاضرة، مع احترام للجالسين دون تعدٍ أو إسفاف بالكلام، فضلاً عما رزقه الله من علم في العربية وآدابها، وشاعرية رقيقة مطبوعة غير متكلفة، وله مجموعة من المفاكهات الشعرية والإخوانيات مع أصدقائه وأحبابه منها شيء في ديوانه، وأشياء ليست في ديوانه.
كان معلماً ومربياً لطلابه في المعهد، استطاع أن يكسب ود واحترام جميع الطلاب وما أصعب ذلك بحسن خلقه وتبسطه مع طلابه، مع تمكن ورسوخ في مادته العلمية التي يدرسها وأشهرها مادة العروض، كما كانت طريقته بالتدريس جاذبة ومحببة للطلاب، مما جعل درسه حديقة غناء تزخر بشتى أنواع الفوائد والطرف، ولم يكن ذلك فقط مقتصراً على طلابه بل كان تعامله طبيعة غير متكلفة مع الجميع بما فيهم زملاؤه في العمل، لقد كان -رحمه الله- مدرسةً في حسن التعامل مع الجميع، وكانت غرفة المعلمين في المعهد العلمي كأنها نادٍ أدبي ثقافي بوجوده ووجود نخبة من الفضلاء معلمي المعهد، يتم طرح القضايا الأدبية والثقافية واللغوية والشرعية والتربوية..، ونخرج منهم بفوائد جمة لا نزال نستفيد منها.
ولذا كثر أصحابه ومحبوه، وكثرت المجالس التي يغشاها بطلب ودعوة وإلحاح من أصحابها لما لشخصيته -رحمه الله- من جاذبية ومحبة، حتى لا يكاد يوم يخلو من ارتباط له مع أصحابه وأحبابه.
والعجيب قدرته -رحمه الله- على التجانس مع الجميع الصغير والكبير فتجد له مجالس مع أساتذة له، وأخرى مع قرناء له في السن، وأخرى مع طلابه، ومن هم في أسنان أبنائه، رغم الاختلافات بين تلك المجموعات في الفكر والثقافة والأدب والتوجهات. وهذا نادراً ما يجتمع في شخص واحد.
أمثال أبي خالد هم من تخلدهم أفعالهم وذكرهم الحسن بين الناس كما قال شوقي:
مَن سَرَّهُ أَلّا يَموتَ فَبِالعُلا
خَلُدَ الرِجالُ وَبِالفِعالِ النابِهِ
ما ماتَ مَن حازَ الثَرى آثارَهُ
وَاِستَولَتِ الدُنيا عَلى آدابِهِ
كل منا سيموت مهما عاش وسيلاقي ربه ولن تنفعه الأسباب الدنيوية إذا حل الأجل، كما قال شوقي:
غايَةُ المَرءِ وَإِن طالَ المَدى
آخِذٌ يَأخُذُهُ بِالأَصغَرَين
وَطَبيبٌ يَتَوَلّى عاجِزاً نافِضاً
مِن طِبَّهُ خُفَّي حُنَين
وكما قال المعري:
وللموت كأس تكره النفس شربها
ولا بد يوماً أن نكون لها شرب
ولكن الناس وإن تشابهوا في الورود فإنهم مختلفون عند الصدور، ومن الرجال أعلام يبقى ذكرهم، ومنهم من يموت ذكره بموته.
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له
إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
للمرءِ في الدنيا وجَمِّ شؤونها
ما شاءَ منْ ربحٍ ومنْ خسران
وقول أبي الحسن التهامي في رثاء ابنه:
وَمِنَ الرِجال مَعالِم وَمَجاهِل
وَمِنَ النُجومِ غَوامِض وَداري
وَالناسُ مُشتَبِهونَ في إِيرادِهِم
وَتَباين الأَقوامِ في الإِصدارِ
وقد قال زهير بن أبي سلمى:
ثلاث يعز الصبر عند حلولها
ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلاد يحبها
وفرقة إخوانٍ وفقد حبيب.
عزاؤنا فيك يا أبا خالد أنك في ضيافة وجوار ملك كريم غفور رحيم، يغفر الذنوب جميعاً.
اللهم اغفر لأبي خالد، وَارْفَعْ درَجَتهُ في المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الْغَابِرِين، واغْفِرْ لَنَا ولَه يَاربَّ الْعَالمِينَ، وَافْسحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فيه، واجبر مصاب أهله وولده، وأحبابه، واجمعنا به في الفردوس الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وأخيراً هذه بعض التباريح التي كتبتها لأستاذي وزميلي أبي خالد رحمه الله، وهي لا توفيه حقه وإنما مشاعر وخواطر اختلجت في خاطري فأحببت إظهارها، وغيري من زملائه وطلابه ومحبيه هم أقدر وأعلم مني بالحديث عنه رحمه الله.
- خالد بن إبراهيم الواصل