د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
المال عصب الأمم، وكان كذلك لجميع الأمم التي خلت. وثقافة المال، حسب بعض المفكرين، أهم من المال ذاته. ولأهمية المال للحياة ذكره الرحمن في القرآن: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وفي القرآن آيات كثيرة تشكل جوهر ثقافة المال في الإسلام. فقد حذر الله أيضاً من سوء استخدام المال في مواضع كثيرة، وحذر الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعّدهم أن تكوى بها وجوههم وجباههم، كما حذر من أن يؤتى السفهاء الأموال، وأمر من يلي أمور المسلمين بأخذ زكاة من الأغنياء ترد إلى الفقراء لتطهر هذا المال وتزكيه، وتشكل هذه التعليمات جوهر ثقافة المال في الإسلام.
في عالم اليوم، عالم المال والاقتصاد، اختلف مفهوم المال ومع ذلك النظرة الاجتماعية له. ففي السابق كانت الأموال تكنز على شكل ذهب وفضة وياقوت ومرجان فيراها الرائي مكتنزة متراكمة ماثلة للعيان، أما اليوم فهي أرصدة وأرقام تتزايد من اليمين لليسار بإضافة مزيد من الأصفار، وقد تصل لرقم فلكي دون رؤيتها عياناً. وهناك أيضاً تحولات نفسية حقيقة في تحول الثروات من ثروات عينية إلى أرقام مجردة ترتبط بضعف الإحساس الحقيقي بتراكم الثروة. ويرى بعض علماء النفس أنّ الإنسان مهما توفر له من المال يطمع بالمزيد ويشغله هذا الإحساس من الاستمتاع بما لديه، وقد تتفاقم هذه الظاهرة للتحول إلى هوس مرضي بالمال للمال فقط. ومع تحول الثروات لأرصدة بنكية أصبح الإحساس بالاكتفاء من المال أكثر تعقيداً. فالأرصدة البنكية تبقى معلومة فقط لصاحبها وللبنك المعني. ويوجد في جميع بنوك العالم تقريباً أرصدة مجهولة الهوية تركها أصحابها ونسوها أو توفوا عنها ونسيتهم. وحين يتحول ولع الإنسان من المال إلى الولع بالأرقام ذاتها يصعب تقدير الهدف من تزايدها أو كيفية توظيفها، وقد ينسى صاحبها حتى هدفه من جمعها، فمع تجاوز الثروة رقم معين، تكون هناك استحالة لجامعها من أن يصرفها فيما تبقى من أيام حياته، وهنا يتحول جمع الثروات لحالة عبثية.
ويسمع الجميع اليوم عن مليارديرات غربيين، كبيل قيتس، ومارك زكربيرق، وتشك فيني وغيرهم كثير، ممن تبرعوا بثرواتهم لأعمال الخير لأنهم توصلوا إلى نتيجة عبثية الأرقام وأدركوا أنّ هذه الأموال المتكدسة لديهم لا يمكن أن تقدم لهم من السعادة أكثر مما قدمته، وألا حدود للكنز والامتلاك والاستهلاك. كما أنهم أدركوا أن هذه الأموال أتت لهم لسنوح عوامل تاريخية معينة وأنها خرجت من جيوب أناس آخرين في المجتمع، فأعادوا الأموال للمجتمع على شكل تبرعات لبناء أو دعم جامعات، إنشاء متاحف، دعم مراكز البحث أو الجمعيات خيرية. فالمال قد يشتري جميع المتع الحسية المعروضة للشراء، ولكنه لا يستطيع تحقيق الإشباع غير الحسي الذي يأتي من الإنجاز، وراحة البال، والرضى عن النفس التي يتغذى من الإحساس بالإسهام في إسعاد الآخرين، أو بناء الأوطان. وهذا الطرح ليس مثالياً كما يبدو لأول وهلة، فقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة في علم النفس العصبي، أن جسم الإنسان مبرمج ليستمد سعادته من مساعدة الآخرين، وأن مساعدة الآخرين جزء من التكوين البيولوجي للإنسان، وعقل الإنسان يفرز هرمونات معينة تسهم في زيادة الراحة النفسية عند الإحساس بفعل الخير. ففعل الخير هو الأساس والجشع هو الاستثناء الذي لا يمكن أن يوفر لصاحبه السعادة. وتزداد سعادة الإنسان طبيعياً كلما أحسن لغيره. ولذا فمليارديرات الغرب الذين يتبرعون بسخاء في كل اتجاه، لديهم حدس معين بالسعي للسعادة القصوى، وليس السعادة الاستهلاكية فقط.
وللمال، كما ذكر عالم الاقتصاد والاجتماع ماكس ويبر، قيمة ثقافية حضارية أيضا. فقد كتب ويبر مقالة مطولة عن الفرق بين نظرة المال لدى المسيحيين الكاثوليك، ولدى المسيحيين البروتستانت، مفادها أنه في سنوات المسيحية الأولى كان جمع المال وإنفاقه في الملذات هدفاً في حد ذاته، وأحياناً يُجمع المال للمفاخرة فقط. لذا كان المال يُجمع ويُبذر ولم تتح للمجتمعات الأوربية آنذاك تكوين اقتصادات حقيقية مهمة، ولا تحقيق تقدم علمي موازٍ. وتغيرت النظرة بظهور البروتستانتية التي شجعت على السعي لجمع الثروات لتنميتها لا لتبذيرها أو اكتنازها، فالبروتستانتية تنظر لجامع الثروات على أنه مستأمن عليها لا مالكاً مطلقاً لها، وترى من واجبه الديني تنميتها وتعظيمها لفائدة المجتمع منها. وهذا هو السبب الرئيس، في نظر ماكس ويبر، لبروز الاقتصادات الناجحة الضخمة في المجتمعات البروتستانتية. ويرد ويبر فشل المجتمعات الإسلامية في تكوين اقتصادات كبيرة لأسباب مماثلة. فالمال مادة صماء حين يُجمع وحين يُنفق، والأهم هو الثقافة التي يغذيها المجتمع عن المال.