لا زلنا مع الرحالة المؤرخ والأديب عاتق بن غيث البلادي ورحلته إلى العرضيات، ولكن هذه المرة في زيارة خاصة، مكث بها أياماً حيث رأى أنه لم يوفها حقها من التوثيق في المرة السابقة لكونه جاءها ماراً في طريق رحلته التي سماها بين (مكة واليمن) وأفرد لتلك الرحلة القصيرة عنواناً أسماه كما أسلفنا في مقال سابق (بين يبة والمخواة)، ولم أضع عبارة الجزء الأول في مقالنا السابق، لأنه لم يكن لديّ النية أن يكون هناك جزء أو مقال ثان يتحدث عن نفس الرحلة.
وقد رأى البلادي رحمه الله أن بتلك الزيارة الخاطفة لم يستوف كل ما أراد عن العرضيات فقرر بعد مضي شهرين العودة إلى تلك الأنحاء من تهامة وكتابة تفاصيل موثقة استقاها من أهل الخبرة والاختصاص عن قبائل العرضيات من بلقرن وشمران والعوامر وبلعريان وبني المنتشر وآل كثير وتفرعاتهم ومواطنهم، أيضاً قام بالحديث عن تفاصيل الطرق من وإلى العرضيات، وألمح إلى أوديتها وشعبها الثلاثة (وادي بيان ووادي الخيطان ووادي الحفياء)، كذلك تحدث عن اللقاء الثاني بأمير العرضية الشمالية حينها بيه بن حسين الحربي وتوضيح الأمير عن حدودها والموقع، وأشار إلى الدعوة التي تلقاها من شيخ قبيلة آل كثير الشيخ محمد بن احمد بن ردفان (وابن ردفان علم من أعلام العرضيات المعروفين ولا يزال ابن ردفان المذكور في الرحلة بشخصه على رأس مشيخة جماعته من آل كثير إلى اليوم)، وقام البلادي بكتابة عنوان رئيس لكل عنصر من هذه العناصر في كتابه الذي سنورد مقتطفات منه عن العرضيات، وبداية ما أود قوله عن تلك الرحلة إنه في يوم الثلاثاء الثامن عشر من ربيع الثاني سنة 1403هـ الموافق 1 شباط/ فبراير 1983م كان لنا موعد آخر في بلاد العرضيات مع الرحالة الحجازي عاتق بن غيث البلادي الذي سلك طريقه الأولى قادماً من الحجاز في ليلة شاتية كثر برقها ورعودها ولم ينقطع سقوط المطر في تلك الليلة، واستيقظ في الصباح بعد أن قضى ليلته في المضيلف، ثم يَمَّمَ وجهه المشرق جهة العرضيات.
الوصول إلى نمرة:
قلت سلك الرحالة طريق العرضيات قادماً من المضيلف مروراً بوادي ناوان وانحدر به الطريق شرقاً إلى وادي الأحسبة، وصل إلى نمرة وهي على 90 كيلاً من المضيلف مروراً بالمخواة التي تقع على 55 كيلاً من المضيلف، يقول واصفاً لنمرة، هي قرية كبيرة في ساحة واسعة على الضفة اليمنى لوادي الخيطان من روافد وادي قنونى، ويمر بها الطريق إلى محايل وتتبعها مساحات واسعة من منطقة العرضيات وتخطيط نمرة تخطيط حسن وطرقها واسعة، وبعضها مزدوج، ولا زالت منازلها بسيطة، وبها مخطط حديث سيبنى بالإسمنت المسلح.
وبنمره من المدارس، مدرسة ثانوية ومتوسطة وابتدائية ومعهد معلمين، كلها للبنين، وبها ابتدائية ومتوسطة للبنات، (بالنسبة لعدد المدارس المذكورة في الرحلة فذلك واقع الحال حينما مر بها البلادي ولكن بعد مرور قرابة الأربعة عقود تطورت نمرة وما حولها فأصبح هناك مكتب للتعليم والإشراف يتبع له مدارس للبنين عددها 29 ابتدائية و16 متوسطة و7 ثانويات، وأما مدارس البنات فعددها 27 ابتدائة و11 متوسطة و5 ثانويات، أما معهد المعلمين آنف الذكر فقد تم افتتاحه في سنة 1401هـ وآخر دفعة تخرجت منه في عام 1407هـ.
وبنمره مستوصف صحي، ومكتب للضمان الاجتماعي، وهذه الإمارة من الدرجة الثالثة والأمير حينها: بَيْه بن حسين بن علي الحربي، التقى به في مكتب الإمارة، وعنده جمع من شيوخ القبائل، قال بيه: تسمى هذه الإمارة إمارة العرضية الشمالية، ويحدها من الشمال غامد الزناد في أعلى وادي بطاط، ويحدها جنوباً وادي بيان الأعلى وشعبن، ومن الغرب غامد الزناد في فرعة والحازمين من قنونى (الحازمين: هو مضيق من قنونى بين جبلين، غرب نمره على مسافة 50 كيلاً)، أما من الشرق فيحد نمرة جبال السراه (العوامر، وحوالة، وبني ميمون، وتتكون هذه الإمارة بشرياً من بلقرن، وشمران، والعوامر، وبلعريان، وعليان بفرعيها بني المنتشر وآل كثير، وجغرافياً من صدر وادي قنونا وروافده الثلاثة بيان والحفياء والخيطان وتتبع نمرة عشرات القرى ومشيخات القبائل.
(بالنسبة للمستوصف الصحي الوحيد في نمرة حينها أود القول تعليقاً على ذلك إنها تطورت الأمور بعد مرور عشرات السنين من هذه الرحلة وأصبح في نمرة عدد 8 مستوصفات حكومية ومراكز صحية والمستوصفات الأهلية وصلت إلى ثلاثة، وبها عيادات للأسنان، وبها مستشفى بطاقة استيعابية 50 سريراً يخدم العرضية الشمالية وكذلك هناك وحدة لغسيل الكلى، والعرضية الجنوبية بالمثل تستقل هي أيضاً بمستشفى آخر خاص بها إضافة إلى عدد من المراكز الصحية).
وبالعودة للحديث عن تفرعات القبائل بالعرضية الشمالية فإن فروعها في تهامة هي:
1 - العوامر: والنسبة إليهم عامري، وديارهم في وجه السراة الغربي على نواشغ وادي قنونى.
2 - عليان: وينقسمون إلى فرعين كبيرين هما: بنو المنتشر، وآل كثير.
3- شمران: وهي قبيلة عريقة ضاربة في التاريخ، وديارهم في تهامة، في صدر قنونى وبعض روافد يبة الشمالية، ويحد شمران شمالاً آل كثير وجنوباً بعض بلقرن ثم تمتد غرباً إلى الساحل، وشيخهم هو (حوفان بن عوض).
4- بلعريان: هي إحدى القبائل التهامية المشهورة، تضرب ديارهم شبه دائرة حول نمرة، ولهم معظم وادي الخيطان أحد كبار روافد قنونى، وأهم فروعهم، المجدع والصوافية وآل محمود، وآل محدب، وآل حسن، وآل صالح، وآل مصلح، وآل علي ويسكنون قرية فاجه مع آل مصلح، وأخيراً المبنى: ومن فروع المبنى العسابلة واحدهم عَسْبلي (من عسابلة بني شهر أصلاً وفيهم مشيخة بلعريان لدى الشيخ علي بن جاري العَسْبلي).
بلقرن:
هي إحدى قبائل الأزد الكبيرة، يسكن قسم كبير منهم في تهامة وتقع ديارهم من وادي خاط جنوباً وتمتد شمالاً إلى قنونى ثم وادي الاحسبة، ويمر طريق العرضيات في ديارهم، وقد تصل ديارهم غرباً إلى قرب الساحل، ويحدهم من القبائل شمالاً وشرقاً شمران، وجنوباً المجاردة وبارق، وغرباً حرب وبني عيسى وبنو شهر وفروع بلقرن في تهامة على النحو التالي:
1 - عمارة، 2 - بنو سهيم، 3 - بنو بحير، 4 - بنو رزق، 5- بلحارث، 6- آل سليمان، 7 - أهل الجوف.
في ضيافة بن رِدْفان :
يتابع البلادي رحلته فيقول بعد أن تناولوا القهوة العربية والشاي عند أمير الشمالية بيه بن حسين الحربي، والاجتماع بعدد من شيوخ بلقرن وشمران والعوامر وبالعريان، قال لهم بيه: إنهم مدعوون عند الشيخ: محمد بن أحمد بن رِدْفان شيخ قبيلة آل كثير بوادي جفن، فكان خروجهم في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، فاتجهوا إلى الطريق المسفلت جنوباً بمحاذاة وادي الخيطان، حتى اجتمع بوادي الحفياء على قرابة خمسة أكيال جنوب نمرة، وحينما وصلوا إلى قرية المعقّص فرقوا إلى اليسار في طريق ترابي، بعد ذلك ساروا في وادي الحفياء يقول ثم صعدوا عقبة أطلعتهم على وادي جفن وعلى مسافة 24 كيلو من نمرة وصلوا إلى قرية الأصادعة وهي قرية المضيّف، وهي في لحف السراة، ومنها ترى الشُّعَف بشموخها، يقول كان ذلك اليوم غائماً بهيجاً زادة بهجة ترحيب المضيّف الكريم وبشاشة وجوه قومه، وقدم ابن ردفان القَرْيَ الذي فوق حاجتهم وأردف البلادي بالقول لكنه الكرم العربي.
وفي نهاية الجزء الثاني من رحلة البلادي إلى العرضيات يتضح لنا عدة نقاط نوجزها فيما يلي:
1 - إن هذه الرحلة رغم أنها جاءت في التاريخ الحديث فهي تكتسب أهمية كبيرة لهذه البلاد المنسية من تهامة، وذلك لندرة الرحالة المسلمين وغير المسلمين الذين استطاعوا عبور تلك الجبال والوصول إليها وإطلاعنا على تفاصيل تلك الفترة التي تفتقر إلى التوثيق.
2 - إن الرحالة الذين سبقوا البلادي إلى العرضيات في القرن الماضي والذي قبله لم تهيأ لهم الإمكانات لتدوين معلومات مفصلة ودقيقة كالتي وجدناها في كتب ومذكرات هذا الرحالة رحمه الله.
3 - تحدث عن قبائل العرضيات حديث العارف بأنسابها وتفرعاتها سلفاً، فيبدو أنه قبل رحلته قام بالبحث الكافي عنها.
4 - ورد لدى الرحالة فيما ضمنه من كتابه عن قبائل العرضية الشمالية أن رواية بني سهيم لم تذكر سوى ست تواسع فقط، ومن المعروف أن بني سهيم تسعة تواسع في الغرم طبعاً من دية وغيره: السُّطَة: تاسعتان، آل راضي وآل حسن: تاسعة، آل عباس: تاسعة، آل عبادلة وآل يعلا: تاسعة، آل العامرية وآل بي ظهير: تاسعة، آل مشرَف: تاسعة، آل أسيمر وآل جابر: تاسعة، آل يزيد: تاسعة، المجموع تسع تواسع.
5 - ذكرت هذه الرحلة أن بلقرن تنقسم إلى سبعة تفرعات، والمعروف أن بلقرن أربعة قواعد فقط هي بني رزق، وآل سليمان، ودحيم، وآل مشيب، ثم تندرج تحت كل قبيلة من هذه الأربع، «التفرعات المذكورة في الرحلة».
6 - بالنسبة للفرق في الخدمات الحكومية في نمرة منذُ زيارة البلادي قبل قرابة الأربعة عقود إلى اليوم فقد تطورت الأمور إلى الأفضل وأصبح بها عدد من الخدمات لم تكن موجودة حينما زارها البلادي فأصبح بها مستشفى، وبلدية، وفرع لوزارة الزراعة، وفرع للمياه، وفرع لوزارة المواصلات، ومكتب للبريد، ووحدة للسجون، وبها أحوال مدنية اعتمدت مؤخراً، وإدارة للتعديات، وإدارة للدفاع المدني، ومركز للشرطة، ومكتب للتعليم، ومحكمة عامة، وبها أيضاً مكتب إشراف نسوي، وجمعية لتحفيظ القرآن الكريم، وجمعيتان للبر، ولجنتان للتنمية الاجتماعية، ولجنة ثقافية، ومكتب دعوة وإرشاد وتوعية للجاليات، وهيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7 - ذكرت هذه الرحلة في جزئها السابق جبل اسمه جبل نخال، وفي الحقيقة أنه لا يوجد هناك جبل مطل على النبيعة بهذا الاسم، وربما قصد جبل طنب، وسكانه من آل سليمان، وليسوا من بني رزق النبيعة، ولعل هذا الخطأ من الرواة الذين التقاهم.
8 - وبالحديث عن سكان الكديس في الجزء الأول أشار إلى أنهم من بلحارث فقط، والصواب أن غالب سكانه من أهل الجوف، وأهل الجوف هم إحدى تفرعات قبيلة آل سليمان من بلقرن، وقد تكون الرواية التي دونها عمن التقى بهم لم تكن بتلك الدقة.
- عبدالهادي بن مجنِّي
bnmgni@hotmail.com