عبده الأسمري
صاحب معالي وركن خير وبوابة عطاء ورفيق ضعفاء وصديق محتاجين.. مجلد بشري من العلم، وتراث معرفي من المسؤولية.. حجر زاوية للتميز العملي والامتياز الفكري.. نشأ طيب تربية وعاش أصيل معدن ورحل وذكراه تملأ أرجاء القلوب وأنحاء العقول.
إنه معالي الدكتور محمد عبده يماني، رحمه الله، الوزير والأكاديمي والمؤلف والمفكر عميد الطيبين وعضيد المبادرات والأولويات في مسارات العمل الحكومي والقيادي والخيري والاجتماعي.
بوجه تعلوه سمات الطيبة وتتقاطر منه كاريزما العطاء وعينين واسعتين تبرق علما وتدمع رحمة، وتخضع عطفا وتشع معرفة وصوت مكاوي «أصيل» ولكنه تنبع منه ألفاظ الحكمة وعبارات السكينة وعبرات التواضع وصوت مصقول بالنبرة الإيمانية، ولحية بيضاء تتناغم مع بياض قلبه وصفاء نيته.
كان الدكتور يماني علامة فارقة، ظل لعقود يملأ الوطن علما وينثر ابداعات معرفته، فكان من جيل الأوائل الذين رسموا خارطة «التجربة» بمداد «الفكر النير» وخططوا بعتاد الايمان وعدة الخبرة والدراسة سداد الرأي وأبعاد الأثر الخالد.
في مكة المكرمة منبع قامات «الرأي والحكمة والموعظة الحسنة» ومنشأ العلماء والمفكرين ولد وعاش وترعرع يركض في أحياء «أجياد والمسفلة والشبيكة» ابنا بارا بوالديه يساعد «والده» في تجارته، ويطلب العلم في الكتاتيب وفي الحرم المكي الشريف النابض بالقرآن والسنة النبوية والحديث والسيرة والفقة، ومطوفاً شغوفا بالمهنة، ومن خدام البيت العتيق ومن سدنة الحب الوثيق لأم القرى الذي تعتقت روحه منذ نعومة أظافرة بماء زمزم وأهازيج المكيين العابقة في سيرته الأولى.
تخرج من الثانوية العامة بمدارس الفلاح، معلم الكفاح ومنارة الإبداع، ثم توجه إلى جامعة الرياض كأوائل الدارسين للبكالوريوس على مستوى الوطن رجح فيها كفة الجيولوجيا كتخصص أحبه فدرسها وتعمق فيها وتميز بها حيث حصل على البكالوريوس في العلوم قسم الجيولوجيا بجامعة الرياض عام 1383هـ ثم نال درجة الماجستير في الجيولوجيا الاقتصادية 1386 ودرجة الدكتوراه من جامعة كورنيل في أمريكا في الجيولوجيا - اقتصاديات المعادن وحصل على دبلوم في إدارة الجامعات من جامعة متشجن في نفس العام.
عمل في الجامعة معيدا ثم محاضرا بعد عودته بدرجة الدكتوراة، ثم ترقى إلى درجة استاذ مساعد فأستاذا في جامعة الملك سعود ثم عين وكيلا لوزارة المعارف عام 1392هـ ثم مديراً لجامعة الملك عبد العزيز، فوزيرا للإعلام في المملكة العربية السعودية من 1395-1403، ثم عاد للتدريس في جامعة الملك عبد العزيز وظل حتى وفاته يقوم بتدريس اقتصاديات المعادن والجيولوجيا الاقتصادية كأستاذ غير متفرغ.
تولى عدة مناصب في القطاع الخاص حيث عمل نائباً لرئيس مجموعة دلة البركة. ورئيس مجلس إدارة 12 مؤسسة وشركة تُعنى بمجالات الثقافة والنشر والصحة والعلوم والتعليم والتنمية والاستثمار،محلية وعربية وعالمية، وله العديد من العضويات في مجالس إدارات عشر مؤسسات عربية وبنكية وأدبية وخيرية. وهو عضو مؤسس لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة. وعضو المجلس التنفيذي لمؤتمر العالم الإسلامي.
للراحل -رحمه الله- أكثر من خمسة وثلاثين مؤلفاً بعضها باللغة الإنجليزية، تركزت في مواضيع علمية ودينية وثقافية مختلفة.
ولأنه شغوف بالسيرة النبوية وعطوف في مجالات الخير كان من المهتمين بالسيرة النبوية ورصدها بطرق سلسة وميسرة للباحثين وطلبة العلم، وتصنيف الحديث النبوي بواسطة الحاسب الآلي ومن المتابعين والمساهمين في أعمال ومبادرات في قضايا الأقليات المسلمة في العالم؛ حيث أمضى وقتا يزور مواقع الأقليات في أفريقيا وفي شرق آسيا والاتحاد السوفيتي والصين، وهو من أعضاء المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وشارك في العديد من المؤسسات والهيئات الخيرية في العالم الإسلامي.
نال يماني وشاح الملك عبدالعزيز والعديد من الأوسمة والميداليات والأوشحة من الإمارات وقطر وموريتانيا والأردن وفرنسا وإسبانيا وإندونيسيا وغيرها نظيرا نشاطاته وجهوده الكبيرة في العلم والمعرفة معرفة والإنسانية والمسؤولية.
توفي رحمه الله في الثاني من ذي الحجة 1431 هـ اثر نوبة قلبية حادة وورى جثمانه ثرى مقبرة المعلاة بمكة المكرمة التي لامس ترابها الطاهر طفلا ويافعا وعاد جسده ليرقد فيها بعد عقود من العمل كان فيها رمزا وطنيا واعتزازا لكل من عرفه وعمل معه أو نهل من علمه تاركا شرف سيرة مضيئة، ومخلفا في قلوب محبيه ومعارفه وكل من يقرأ حياته تقديرا خاصا ومحبة ظلت مرتبطة باسمه وسماته بعد أن سجل ملاحم من العطاء والسخاء في العلم والعمل.