د. سلطان سعد القحطاني
يطرح الدكتور عبد الله الغذامي عدة أسئلة على نفسه وعلى المتلقي، لعل الإجابة تكون مطابقة للطرفين أو جزء منها لكل طرف، ومن هذه الأسئلة:
هل جنى الشعر العربي على الشخصية العربية؟ وهل في ديوان العرب أشياء أخرى غير الجماليات التي وقفنا عليها- وحق لنا لمدة قرون؟ وهناك أسئلة يطرحها المفكر عبد الله الغذامي لإثارة موضوع للبحث كعادته.
والحقيقة أن الشعر العربي لم يجن على الشخصية العربية، سواء في جاهليتها أو في وقت نهضتها بتوحد لغتها على لسان واحد، بل كان جزءاً كبيراً من نهضتها، بما بثه من روح عربية، وعربية إسلامية استطاعت أن تثبت ذاتها منذ أن كافح حسان بن ثابت بشعره الذي دعا له الرسول (ص) بأن يكون روح القدس( جبريل) عليه السلام معه، كما استنهض أبو تمام في قصيدته (فتح عمورية) المعتصم بالله لصد الروم عنها، وكان له ذلك، بعكس ما كان المنجمون والعرافون يقولون به، مطلعها:
السيف أصدق أنباءً من الكتب.. في حده الحدُ بين الجِد واللعب.(10) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكل أمة تراثها، فهل نقول أن شكبير وكيتس وملتون، وغيرهم من شعراء أوروبا جنوا على الشخصية الأوروبية، أم كانوا جزءاً من نهضتها، التي نتبع خطاها هذه الأيام بعدما أفلسنا؟.
ولم تكن نكسات العرب على مدى تاريخهم الطويل بسبب الشعر الجاد الصادر من روح شاعر يؤمن بقضاياه المصيرية في لغة فصيحة ذات معان ومدلولات لغوية صادقة في صياغات ثقافية وعلمية، ولا عبرة لقصائد من شعراء في الصف الأخير إذا وجدوا لهم مكاناً فيه، وحتى إن كان المتنبي مدح كافور الإخشيدي رغبة في منصب أو مال، فهذا شأنه ولا يعنينا بقدر ما يعنينا أسلوبه الشعري الجميل ومفرداته التي حفظت لنا كثيراً من التراث اللغوي، إنما النكسات كانت بسبب تلاحم العرب وفرقتهم والسير في تيارات معاكسة.
ولعلي أتفق مع نقادنا الذين أرادوا أن يكون لهم مكاناً في قضية النقد الثقافي الذي صنعوه سيراً على خطا النقاد والدارسين الأوروبيين في العقود الأخيرة، مستعيضين عن النقد الأدبي بالنقد الثقافي كما يزعمون أنه نقد، ونحن لا ننفي النقد في أي مجال، لكننا لا نجد له مكاناً في فروع النقد المعتمد على العلمية والأدبية في أحيانٍ كثيرة، وقد نقرأ ونستمتع بما كُتب حول هذا الموضوع أو ذاك، لكن لا تتعدى هذه القراءة القراءة نفسها كأي مقال في صحيفة أو حديث في مجلس أدبي للتسلية أو إثارة نقاش عقيم.
وهناك بعض الظواهر الثقافية التي لا نستطيع إهمالها، ولا نستطيع الاعتماد عليها في الدراسات النقدية لسبب واحد، وهو أنها ليست ثابتة على منهج معين، كما لا نستطيع الغاء بعض المناهج العربية التراثية، كالبلاغة على سبيل المثال، مع الاعتراف بقصورها في النقد الثقافي الحديث والنقد الأدبي بشكل عام، فكثير من النقاد لا يعتمدون على هذه الأنساق في الدرس النقدي الحديث، لكننا لا نستطيع إهمال ما تستدعيه الضرورة في تحليل النص الأدبي(11) من جهة، وللحفاظ على التراث من جهة أخرى، والبدائل في أحيان كثيرة تكون كارثة على نفسها.
وقد حصل في العقود الثلاثة الماضية تحولات في النقد- بصورة عامة- من نقاد ليسوا متخصصين في النقد الأدبي، بقدر ما هم متخصصون في العلوم الإنسانية والطبية وغيرها، فدعوا إلى التحول من النقد الأدبي المنطلق من النصوص إلى النقد الثقافي المنطلق من وجود ظاهرة ما في زمن ما، أو رؤية معينة لظاهرة تستحق الوقوف للمعالجة، ثم تنتهي بحلول البديل. وهي نظرات عابرة لما وراء النص كجزئية يقوم النقد على أجزاء منها، كالدرامى التليفزيونية، والعرض المسرحي، ومباريات كرة القدم، وبعض الممارسات الشعبية في المناسبات، كالزواج والاحتفالات الدولية والشعبية، ومزايين الإبل، وغيرها.
وهذه الظاهرة الاجتماعية الشعبية لها نقادها المعتمِدون على الخبرة والذوق العام، لكن بدون مفاهيم وطرق علمية، والممارسة تلعب دورها في التقييم، وفي زمن العولمة أصبحت الوسائل مفتوحة للجميع، بين الشرق والغرب وأخذ بعض النقاد يمارسون طقوساً نقدية من خارج البيئة التي سيطبق عليها الدرس النقدي، فغنى كثير منهم خارج السرب، على أن هذا نقد ثقافي، ونحن لا ننكر النقد الاجتماعي المتعلق بالأعراف كثقافة، لكنه نقد لا ينطبق عليه مصطلح النقد بأي حال من الأحوال لسببين أساسيين:
الأول: أنه نقد لظاهرة مخالفة للعرف السائد في البلدة، أو القبيلة، أو الدين.
الثاني: أنه نقد من طرف واحد لا يجوز فيه التقييم، فهو يخلو من القيمة، فهو في النهاية وجهة نظر يبديها شخص نل عن قناعته لما يقول.
فالنقد الدرامي والتليفزيوني والمسرحي، والكروي والحوارات في المناسبات وغيرها مما ذكرنا لا تقوم على أسس علمية، فهي مجرد خواطر وإسقاطات نظرية من وجهة نظر خاصة، تنتهي بمجرد انتهاء الحد ث نفسه، وعندما يتكرر تظهر آراء أخرى قد تناقض الآراء السابقة.
فإذا رجعنا إلى دراسات بعض الدارسين لهذا النوع من النقد،فسنجد بعضهم يعترف بأن النقد الثقافي( نقد أيديولوجي وفكري وعقائدي) (12) فإذا كان بهذه الصورة التي تضم تفسير الظاهرة الاجتماعية وتأثيرها على الناقد فهذا أدبي ولا جدال في ذلك، وهو من العيوب التي لاحظها الدارسون على الأدباء النقاد في العصور القديمة، فالظاهرة الاجتماعية قد أثرت على النابغة الذبياني في حرمان الخنساء من جائزة سوق عكاظ(13) لأنها امرأة، ونحن لا ننفي الأدلجة في كل شيء من طباع البشر، أما أن النقد الثقافي فكري، فالشاعر ليس مطالباً بأن يكون مفكراً مثلما يطالب الناقد بذلك،وهذا ما لاحظه النابغة الذبياني في شعر حسان عندما قال( الجفنات) وهي جمع قلة، فقلل من كرم قومه.
ولو حاكمنا النصوص بالمنطق العقلي لخرجنا بشعر المناسبات المبالغ فيها خارج المنطق،ومثلها ما يسمى بالشعر الإسلامي، ولحرمنا أنفسنا من خيال الشعراء الجميل وأصبح الشعر نظماً بائساً لا روح فيه، وإن تحولنا إلى عقائدي، فسندخل في المذاهب والمدائح الآيديولوجية العقدية، بين المذاهب والديانات، ونُخرج الشعر من رونقه الجميل، ونحوله إلى التصوف والمنظومات الفكرية ذات الطابع التعليمي، كألفية ابن مالك وغيرها.
وإذا أخذنا النقد على أنه يقوم بنقد العيوب النسقية التي توجد في الثقافة والسلوك بعيداً عن الخصائص الجمالية والفنية،فسنقوم بكسر أحد أجنحة القصيدة وهو الصورة الجميلة. والنقد اليوم جزء من النص الجمالي الفني، ولم يعد يفتش عن العيوب، لكنه يغوص في بنية النص الباطنية محللاً ومكتشفاً ومن خلال هذا الغوص والتحليل تنكشف العيوب بطريق غير مباشر ساذج، أما إذا كان الأمر كذلك كما نص عليه منظروا النقد الثقافي، وقد ألمحنا له، فهذا مكانه علم الاجتماع والفلسفة، وهذه لها مجالها غير النقد بمفهومه الأدبي الراقي إلى علوم أخرى.
لا نود أن نطيل في هذه الورقة المحدود وقتها، لكن نود أن نختصر ونركز الكلام حول الموضوع بالمختصر المفيد في ختام هذا البحث، فنجد أن الذين عملوا على هذا الموضوع لم يستقوا مادته من التراث أو الحداثة العربية، وإن كانت الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من الحداثة العالمية، لكن تبقى الحدود المتعارف عليها من الثقافة الخاصة، وهي مربط الفرس في هذا النوع من النقد، فلو طبقنا نصاً أدبياً على النظريات النقدية الحديثة خارج السياق المحلي فلن نجد صعوبة في ذلك، لكن لو طبقنا نصاً ثقافياً على تلك النظريات فلن يكون له جدوى وسنغرد خارج السرب العلمي، لأن هناك فروقاً لن تتطابق مع طبيعة النظرية، وقد طبقها أولئك لأنها موجودة في ثقافتهم، فخذ- على سبيل المثال- نصاً عن الإبل باللهجة العامية في الجزيرة العربية ، وهي ليست موجودة في الثقافة الغربية فلن يكون له جدوى فهو ليس أكثر من تقليد أعمى.فلو ألغينا البلاغة من مناهجنا، وهي رديئة التعليم، مما جعلها دون المستوى- عليمياً وثقافياً- فكيف نتعلم ونعلم المبدع كيف يخاطب متلقيه ولا كيفية معرفة النصوص الدينية والتراثية، فهل سيعطينا أحد من ثقافته؟ بالطبع سيكون الجواب بالنفي المطلق، فلكل امة ثقافتها، مهما تعلمنا لغتها وفنونها، سنبقى في قصور منها.
فالبلاغة العربية فريدة من نوعها، واللفظ القرآني إذا لم يكن الإنسان متمكناً منه فسيظن به معنى غير ما يقصده اللفظ بعينه، ولذلك ورد على لسان العرب في بلاغتهم التي أدهشت كل من سمعها أو تعلمها،ففي كل يوم يكتشف الجديد، ومنها قلب المفعول على فاعله، فيكون المفعول في مكان الفاعل. قال الله تعالى: { فهو في عيشة راضية} فالعيشة ليست هي الراضية، لأنها جماد لا يعي الرضا من السخط،فهي في الحقيقة» مرضية» مفعولة. ومثلها قوله تعالى: { خُلق من ماء دافق} فالماء مدفوق ، مفعول،وليس هو الفاعل، وهذا من إعجاز لغة العرب التي نزل بها اللفظ الإلهي(14).
وقد اجتهد العلماء في تفسير وتيسير اللفظ القرآني لمتتبعه والراغب في مزيد من المعلومات، بما فيه من بلاغة عربية أصيلة اختارها الله– تعالى- لحفظ كتابه إلى يوم القيامة من بين لغات العالم، ويأتي من يتبع من لا يفهمها ، بل يتعامل بموجب لغته هو التي يطرأ عليها التغيير من حين إلى آخر، لأنها قول بشر يمكن أن يتغير بين الفينة والأخرى، وهذا لا يمكن – بأي حال من الأحوال- أن ينطبق على اللغة العربية وبلاغتها. أما إن كان الهدف من ذلك تحسين وتطوير علوم البلاغة العربية فأنا أول الموافقين على التطوير، لأن المناهج في البلاد العربية تعاني من التخلف في ميدان المناهج العالمية، والمعلم ليس عنده سعة اطلاع على المستجدات ليعالج بها هذا القصور، والوسائل الإعلامية في مجملها تتعامل بلغة عامية شعبية متخلفة من العصور الأولى، وخاصة في مجال القنوات التجارية.
الخاتمة: أردت في هذه الإطلالة السريعة أن اعطي لمحة عما يعانيه نقدنا الثقافي، الم تمثل في الثقافة الشعبية بعد أن باءت المحاولات من أساتذة كبار في المجال نفسه بالفشل، فتحول بعضهم إلى ثقافة لعبة الورق الشهيرة في السعودية( البلوت) التي يلعب فيها مجموعة تتكون من أربعة أشخاص كل أثنين منهم يمثلان فريقاً ضد الآخرَين، محللاً أبعاد الحالة النفسية للاعب وتحديه للفريق الآخر، وقد تحصل فيها بعض التعديات نتيجة انفلات أعصاب بعضهم على الآخر. وبعضهم تحول إلى نقد بعض الأطعمة، سواء كانت الشعبية أو الأوروبي/ أمريكاني، ولا نستطيع أن نجزم أن هذه الحالة في النقد العربي هي الحالة التي أصيب بها النقد الأوروبي نتيجة الإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة جماهيرية تعوض عن النخب المثقفة التي أعرض بعضهم عن مقولاتهم، حتى أن بعضهم كتب مقالات حول( سقوط النخبة) وأنها لن تفيده في مشروعه الذي يزعم أنه ناجح، كما كتب الفريق المضاد أن النقد الثقافي نقد غير علمي وغير أدبي(15) ونوافق ذلك الكاتب فيما يلي:
أولاً، هذا النوع تقليد لكتاب غربيين ذكرنا بعضاً منهم، لم يكن مجاله أدبياً، بل انطلق من فلسفات أغلبها بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من إحباط وخيبة.
ثانياً: طبقوا النقد على ثقافة تختلف عن الثقافة العربية والدين الإسلامي،فجاء النقد في واد والثقافة المنقودة في واد آخر.
ثالثاً: اتخذوا منهجهاً أوروبياً بعد انتهاء صلاحياته.
ربعاً: لم يعالجوا نصوصاً أدبية بل تعدوها إلى فلسفات أشبه بالمنشورات والمقالات الجماهيرية للعبة رياضية أو حفلة غنائية، أو تمجيد فريق ضد الآخر أياً كان نوعه أو جدارته.
ومن هذا المنطلق وما شابهه خاض عدد من النقاد والمفكرين هذه التجارب منتهية الصلاحيات من ثقافة ليس لها مردود، قامت على آراء فلسفية في أوروبا وأمريكا، بينما أرادوا أن يطبقوها في بلاد أقل ما فيها التفكير الفلسفي، وأعني بها البلاد العربية، ولعب ( الميل الغالب) كما هو معروف في علم النفس على هذه الكتابات التي يغرد أصحابها خارج السرب، وختاماً نقول واثقين عما نقول: النقد الثقافي ليس من النقد العلمي أو الأدبي في شيء، وعلى نقاده أللا يضيعوا أوقاتهم في الحرث في البحر...... والسلام عليكم.
... ... ...
الهوامش:
1 - انظر، مادة (ثقف) في معجم الكلمات العربية، ولسان العرب، ص111، و112 بيروت.
2 - سورة الحجر، آية9.
3 - برنامج الجنادرية، المهرجان الوطني للتراث والثقافة، بدأ منذ1983
4 - انظر، سلطان سعد القحطاني( مصطلح الأدب الإسلامي) ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر جامعة الزيتونة- عمان- الأردن 30-2013/10/31.
5 - عبد الله الغذامي (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف)ص151، المركز الثقافي.
6 - سورة الحجرات، آية13.
7 - سنن الترمذي «كتاب الأدب» ص116، وما بعدها.
8 - سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.
9 - سورة الشعراء، 224.
10 - شرح ديوان أبي تمام، للأعلم الشنتمري، دراسة وتحقيق، إبراهيم بادن، ومراجعة محمد بن شريفة،الشئون الإسلامية المغربية 2004.
11 - حول هذه الإشكالية النقدية، انظر، عبد الله الغذامي، في كتابه النقد الثقافي، وما دعا فيه لإلغاء مناهج البلاغة من مناهجنا.
12 - انظر، جميل حمداوي( النقد الثقافي بين المطرقة والسندان) ديون العرب، 7يناير 2012.
13 - انظر، سلطان القحطاني( النابغة الذبيان حكم سوق عكاظ) مهرجان عكاظ السنوي.
14 - انظر، تفسير ( أضواء البيان) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، سورة الحاقة، آية 20، وسورة الطارق، آية 5.
15 - انظر: جريدة الجزيرة السعودية تاريخ 2014/12/20.