د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
أكَّدتُ في الجزء الأول من هذا المقال على أهمية أن تلتفت الجامعات إلى أقسامها التفاتةً جادة، وأن تعمل على تهيئة كل ما يمكن لتقويتها وتطويرها؛ لأنها السبيل الأول والأمثل لقوة الجامعة نفسها، ثم طرحتُ مجموعةً من المقترحات التي أرى أن يجتهد القسم العلمي للعمل عليها والعناية بها، حتى تكون سبباً من أسباب قوته، ومظهراً من مظاهر أصالته ومتانته، وسبيلاً من السبل التي تمنحه القدرة على المنافسة بين أقسام الجامعات الأخرى، بل إنَّ ذلك -وهذا هو المهم- سيؤثر على مستوى الجامعة التي يتبعها من حيث القوة والشهرة والتقدُّم في التصنيفات الدولية.
وإذا كنتُ قد أشرتُ فيما سبق إلى ضرورة وضع معايير عالية ودقيقة لقبول المتقدمين للانتساب إلى القسم، والتأكد من أهلية المتعاقَد معهم من خارج الوطن، فإني أؤكد هنا أيضاً على أهمية النظر في المتعاقَد معهم ممن بلغ سن التقاعد؛ لأنَّ بعض هؤلاء قد أفلس ولم يعد عنده من جديد يقدِّمه، غير تلك المعلومات التي ظلَّ يرددها منذ أكثر من ثلاثين عاما أو يزيد، والإشكالية لدينا أننا ننظر إلى كلِّ كبار السن هؤلاء على أنهم أصحاب خبرة وتجربة وينبغي الإفادة منهم؛ لأنَّ هذا النظر لا ينطبق إلا على القليل منهم، أما أغلبهم فخبرته في الحقيقة سنةٌ واحدةٌ مكررةٌ ثلاثين عاما أو أربعين، دون أن يحاول تطوير نفسه، أو يسعى إلى مواكبة التطور، معتقداً أنَّ الزمن ينتظره ليلحق به، فأفلس ولم يعد لديه جديد يمكن أن يقدمه، وهنا ينبغي على القسم ألا يجامل أمثال هؤلاء، بل يجب أن يكون صارماً في التخلص منهم بعد تكريمهم والاحتفاء بهم، وأظنُّ أنَّ هذا الإجراء من أصعب ما يواجهه القسم، نظراً لطغيان جانب المجاملة بين منسوبيه.
ومن عوامل قوة القسم وتفوقه وتميزه العناية برسائله العلمية التي يجيزها، والاهتمام بجدَّتها وجودتها، والحرص على ألا ينتج سوى أطروحات متينة علمياً ومنهجياً، ولأنَّ جانب المجاملات يطغى بين المنسوبين في إجازة البحوث الهزيلة فإنَّ على القسم أن يسعى جاهداً لتجنُّب ذلك، من خلال بثِّ الشعور في نفوس منسوبيه بأنَّ ردَّ الرسائل الرديئة وعدم إجازة البحوث الضعيفة أمرٌ طبعيٌّ وصحي، بل ينبغي تطبيع هذا الإجراء وجعله هو الأصل، في ظلِّ التردِّي الكبير الذي يعيشه البحث العلمي هذا الزمن.
ومن العوامل أيضاً الحرص على متابعة التعديلات التي يُقِرُّها المناقشون في إجازة الرسائل العلمية، فكثيرٌ من هذه التعديلات المهمَّة التي لا يختلف عليها اثنان تطير في الهواء وقت المناقشة، ولا يفكر الطالب ولا مشرفه في الالتزام بها؛ لأنهم يثقون أنَّ الرسالة أجيزت، ومن ثم فلا داعي للتعديل، كسلاً وإهمالا، فتجتمع الرسائل المجازة على الرفوف، ناضحةً بأخطاء علمية ومخالفات منهجية، تسيء إلى سمعة القسم وتهوي بقوته.
ومن السبل التي تحقق للقسم قوته الحرص على تطوير منسوبيه، والإسهام في تقويتهم علميا، وحثهم على تمتين ثقافتهم، ومواكبتهم للتطور العلمي والتقني الذي نشهده اليوم، من خلال إلحاقهم بدورات علمية وتقنية موثوقة حقيقية مفيدة، وتسهيل مشاركاتهم في المؤتمرات والندوات والملتقيات الداخلية والخارجية التي من شأنها توسيع مداركهم، والارتقاء بثقافتهم، وفتح آفاقهم لتقديم الجديد المبتكر.
ومن مهام القسم الضرورية تشجيع منسوبيه المتميزين علمياً وإداريا، والاحتفاء بهم، والفخر بإنجازاتهم، والتفاخر بهم بين الأقسام والكليات، فهذا يشجعهم على تقديم المزيد، ويقوِّي انتماءهم إلى قسمهم، ويجعلهم يفتخرون به، ويعتزون بانتسابهم إليه، إذ سيعدونه كالأب الحاني الذي يفتخر بإنجازات أبنائه، وفي المقابل فإنَّ على القسم أن يحثَّ باستمرار الأعضاء غير الفاعلين على ضرورة التطور وعدم الركون إلى الإنجازات القديمة، والمواصلة في التميز العلمي وضرورة التفاعل مع المجتمع، وعدم التقوقع داخل القاعات، والاكتفاء بالمهام التعليمية المعتادة.
ومن عوامل قوة القسم حرصه على إقامة المؤتمرات والندوات العلمية، وقدرته على تنفيذها باقتدار، من خلال اختيار الموضوعات والمشكلات المهمة القريبة من حاجة المجتمع واهتمامه مما يتصل بتخصصه، ومعالجتها والسعي إلى وضع الحلول لها، وهذا يتطلب بلا شك قوةً علميةً وإداريةً قادرةً على إقامة هذه المناسبات العلمية وتنفيذها، فإنَّ مثل هذه الجهود من شأنها أن ترفع اسم القسم عالياً بين الجامعات، وتبرز قوته العلمية والإدارية، وتكشف عن قدرته على معالجة المشكلات والتفاعل مع المجتمع.
هذه بعض المقترحات السريعة للأقسام العلمية التي تتغيا القوة والتميز، وتحرص على أن تظلَّ في ساحة المنافسة، وأن تكون سمعتها العلمية والإدارية قويةً على المستوى المحلي والدولي، ولا شك أنَّ اهتمام الجامعة بتسهيل هذه الجهود لأقسامها سينعكس إيجاباً وقوةً وتميزاً على الجامعة نفسها، إذا ما أرادتْ أن تتبوأ مراتب متقدمة في التصنيفات الدولية.