د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تبدأ الرواية وشخصيتها الرئيسة في معرض فرانكفورت الدولي يوقع كتابه «عرش الشيطان»، وفي تلك الأثناء تتكون خيوط نهاية النص، فالفتاة التي ستشاركه غالب أحداث الرواية، وبطولتها - إن صح التعبير - تظهر في هذا المقطع، كما الشاب الألماني تركي الأصل، يهم بشراء الرواية، ويدخل معه في جدل طويل عن سبب تأليفه كتاباً يمس الذات الإلهية، وهي القضية التي بدت في الزمن التاريخي الذي تقصه الرواية.
وعلى العكس، تسلك الفتاة طريقاً آخر في الحديث عن الموضوع الذي تحدث عنه الفتى الألماني، فإذا كان قد حاوره عن موضوع الرواية، منكراً عليه أن يختار موضوعاً كهذا لا يراعي قداسة القرآن الكريم، فإن الفتاة قد بدت معجبة، وممتنة له على ما سطرته يده في الكتاب، وأصرت على أن تقبل يد من كتبها مدعية أن كل حرف من حروف الرواية يعنيها شخصياً، وأنها قد قرأت نصاً يسكنها قبل أن يتحول إلى جزء حقيقي.
في هذا الوقت نجد المترجمة الألمانية لا تخفي قلقها من شخصية الفتاة - سابقة الذكر - وتشير إلى غموض مسلكها في الدخول إليه، والحفاوة به، ثم في تصرفها معه، وتجاهلها له حين دعاها بـ»لوليتا» بصوت عال بالرغم من أنها قد سمعته يناديها كما سمعه كل من في القاعة، وصرف إليه رأسه لينظر المنادي إلا هي. هذا النوع من النساء - من وجهة نظر المترجمة - يحمل خطورة قاتلة، فهي يمكن أن تتحول كذلك في أية لحظة، إذا خسرت رهانها، ثم أعادت إليه الصفة نفسها مرة أخرى حين قالت:
- الصداقة أحياناً تكون قاسية حبيبي... وربما قاتلة.
وكأن الكاتب يريد أن يربط بين هذه الفتاة الجميلة اللعوب، وفعل القتل، بصورة غير مباشرة، فإذا كانت يمكن أن تقوم بالفعل، فإن السبب ليس مهماً ما دامت النتيجة واحدة على طريقة أبي الطيب المتنبي:
تعددت الأسباب والموت واحد
هذه الإشارات توحي لنا بالحدث الأكبر موضوع النص، والنهاية التي سيصير إليها، إلا أن الكاتب لا يرغب في أن يأخذنا بهذا الطريق مباشرة دون أن يعرج في غضون ذلك إلى كثير من القضايا، أهمها القضية التي ختمت بها المقال السالف، وهي أن يكون الإنسان في وطن كان يحاربه، ثم أصبح الحامي الوحيد له من خطر يداهمه من وطنه الأصلي.
وهذه الصفة الأخيرة تجمع بين الفتاة الشابة اللعوب، والكاتب الكبير الذي أوفى على الستين من العمر، فإذا كنا قد عرضنا في المقال السابق - على عجل - سبب ارتحال الكاتب إلى فرنسا، إذ كان سبباً - يمكن القول - سياسياً، فإن ارتحال الفتاة كان لسبب شخصي، إذ إن والدها - على حد زعمها - قام باغتصابها، ففرت إلى فرنسا طلباً للحماية منه، وراغبة في البحث عما يرمم جراحها، ويداوي ما أصابها من تلك التجربة العنيفة.
وعلى الرغم من أنها تجربة شخصية إلا أنه من غير الممكن أن تقابلها وحدها، فطريقة تعامل المجتمع الذي تنتمي إليه في الجزائر، لا يولي هذه القضايا كبير اهتمام، (كما في الرواية) وقد بدا ذلك من موقف أخيها الذي ارتحل إليها في باريس كي يقنعها بسحب الدعوى التي أقامتها على والدها، والرجوع إلى حضن العائلة الدافئ، وكل ما تذكره عن أبيها محض كذب وافتراء، تناولت بها سمعة ذلك الشيخ الطاهر، وفي موقف أمها - أيضاً - التي قامت بالرحلة نفسها، وطالبتها بالعودة إلى الجزائر، والاعتذار عما بدر منها تجاه والدها، مدعية أنها هي السبب وراء ما حدث، فأبوها يظل رجلاً ضعيفاً سقط في فخ طبيعته الفطرية، حين قامت بإغرائه، وإزالة المسافة الفاصلة بينهما، مما استرعى انتباه الأم - سلفا - ودفعها لدعوتها إلى الحد من سلوكها ذاك.
وهنا تصبح التجربة الشخصية التي مرت بها الفتاة تجربة جمعية اجتماعية، لأن المجتمع كله يقف في صف والدها، ويمنعها من أن تأخذ حقها منه، أو أن تعاقبه على ما بدر منه، فهي لن تتمكن في الحقيقة من معالجة الأمر كما أنه أمر شخصي بينها وبين والدها، بناء على أن الأطراف الأخرى تقف في صف والدها، في ظل غياب طرف يعالج المسألة معالجة مؤسساتية، يقف فيها على الحياد - على أقل تقدير.
وهذا يعني أنها لم تفر من والدها وحده، ولكن أيضاً من المجتمع الذي يمثل عائقاً في إنصافها، والتخلص من المشاعر السلبية التي عانتها، وأن تبدأ حياتها من جديد، وهو ما جعل فرارها أمراً لازماً، ويجعلها في موقف واحد مع الكاتب الذي تلتقي معه في أحداث الرواية.
فهو يهرب بسبب انضمامه إلى الحزب الموالي للرئيس الشرعي، ورفضه الانقلاب الذي قاده بعض الخونة، الأمر الذي أدى بهم إلى سجنه، والتنكيل به، وهي تفر بسبب التجربة العنيفة من والدها، ووقف المجتمع في صفه، ومنعها من رفض هذه المعاملة الجائرة، ومحاسبته على ذلك. وهنا يتماهى السببان، وتتحد قضيتاهما معا، الأمر الذي يجعل لقاءهما أكثر من لقاء كاتب مشهور بإحدى معجباته.