محمد جبر الحربي
«معَ الإيمانِ.. لا فَقْدٌ لديْنا
فَقَدْنَا، قبلَ أهلينا، البلادَا.
وقهوةُ صُبحِهِمْ دَيْنٌ عليْنا
ونحفظُ بالودادِ لهمْ ودادَا.
سنذكُرُهمْ.. تذكٌّرُنا يَدَيْنا
فذكراهُمْ أحقُّ بأنْ تُعَادَا».
بعدَ مغربِ ذلك اليوم، قرَّر الأطباء تحويلي إلى وحدةِ العنايةِ المركَّزة، أو الفائقة، أو المشدَّدة، وكانتْ عنايةً فائقةً مركزة بالفعل، وكانت ليلة طويلةً، لمْ أكنْ أقوى على الحركة، ولكنني كنت حاضراً، وكان الأطباءُ طوالَ الفترة التي مكثتها، يطمئنونني بأنَّ الفحوصات والأشعة المختلفة، وكلَّ النتائج، تُظهر سلامةً في الجسد، وأن السبب في تعبي يكمنُ في التَّوتر الشديد الذي مررتُ به في الفترة الماضية، والمشاكلِ التي واجهتها، والإجهادِ وعدم الراحة الكافية، والضغطِ العالي الذي خلَّفه كلُّ ذلك، مع تسارعٍ في نبضاتِ القلب. كانتْ نصيحتُهم جميعاً، إضافةً إلى الاهتمامِ بالغذاءِ والدَّواءِ والرَّاحةِ والهدوء، هي البعد عَنْ بؤر التوتر، والأصوات العالية، والمشاحنات، وكان جوابي الموحَّد لهم جميعاً: هو أننا لا نذهبُ إليها قاصدين، وإنَّما هي التي تلاحقنا وتحاصرنا.
وأنا أفهم أنَّ هذا العصرَ هو عصرُ القلق والتوتُّر والضجيج والمحرضات على الوحدة والسواد والكآبة، لكنني لا أعلمُ لماذا لا يسود مكاتبنا وأماكن عملنا، وبيوتنا السلام والهدوء والحوار الهادئ والسكينة، خاصةً وأننا لم نمر كغيرنا من الشعوب والحضارات بتعقيدات الحربين العالميتين، والثورة الصناعية وتبعاتها..؟!
وتساءلتُ لماذا لا نكون كجيراننا الشرقيين، وقد اختلطنا بهم، وقربتنا التقنية والعلوم، وربطنا الاقتصاد، كاليابانيين والصينيين والآسيويين بشكل عام. ومِنْ قبلُ لماذا لا نتمثّل ديننا، ونحن نستعرض آياتِ قرآنهِ وأحاديثهِ وقيمهِ وحكَمهِ على وسائط التواصل الاجتماعي بشكلٍ لا يضاهينا فيه أصحابُ أيِّ دين، حتى لنبدو مع كثافة تناقلها وترديدها ملائكةً مسالمين متحابين، لا فُجْرَ في خصوماتنا، ولا غضبَ، ولا تجاوزات، ولا لعنَ ولا شتْمَ ولا حقدَ ولا كراهية! ولكنْ، وللأسفِ فالعكسُ صحيح، فما نعيشهُ كأفراد وأسَر، وكمجتمع، يؤذي السَّمعَ والبصرَ والقلبَ، وكلُّ ذلك شهيد، وقد استفحل هذا السوء، سوء الخطاب والحديث والحوار، وسوء النوايا في البثِّ والتلقِّي معاً، في مجتمعاتنا العربيةِ كافَّة، حتى انتقلَ، بطبيعةِ الحالِ، من البيتِ والشارعِ والوسائل الناقلِةِ التي لم تعد حكراً على أحد، إلى النٌّخبِ الثقافيةِ والإعلاميةِ والسياسية، وأصبحَ الإعلامُ الذي يُفترضُ بهِ أنْ يطرحَ قيمَ القربى والجوار والتسامح والمبادئ والتنوير والحوار الحضاريِّ والحلولِ العلميَّة والعمليَّة، ويساهمَ في الارتقاء بالدُّول والأمَّة، هو الأكثرَ ضحالةً وسفاهةً وعقما. وباتَ هو المؤجِّج لنيرانِ الفتنةِ والحروبِ، ولنكونَ منصفينَ، نستثني فنقولُ جلٌّهُ لا كلٌّه.
فالعربُ في أوطاننا لم يعودوا ظاهرةً صوتيةً، كما رأى القصيمي، ولكانَ غيَّر رأيه لو كان بيننا، فقد أصبحوا ظاهرةَ ضجيجٍ وصراخٍ وصياحٍ لا معنى لهُ ولا قيمةَ، ولا نتائج سوى الضَّجيج والصِّياح والصُّراخ المدوِّي القاتل.
حتى المنابر التي يُفترضُ بها أنْ تَهديَ وتُهدِّئَ، وتنشرَ النورَ والسلامَ والوحدةَ والوئام، أصبحتْ تتبارى وتتفننُ قي نشرِ الفرقةَ والفئويِّةَ والطائفيِّةِ والكلامِ القاتلِ والسهامْ، ومِنْ ذلك الطعنُ واللعنُ والسوادُ والظلمُ والظلام.
ونحن عندما تنتكسُ صحتنا، أو نسقطُ فجأةً، يقلقنا ويخيفنا المرضُ حدَّ الفزعِ المميتِ، ونعرفُ معه مدى هشاشتنا وضعفنا مهما كانت قوتنا وجبروتنا، ومهما بلغ غنانا وتعاظمت ثروتنا، ونظلُّ في حضرته متأرجحين بين اليأس والرجاء، وفي غمرةِ هذا الخوفِ والألم، نتعلَّقُ بالدٌّعاءِ، والأملِ بمعجزةٍ إلهيةٍ تنتشلنا مما نحن فيه من حيرةٍ وقلق وعناء، وتبقى أعينُنا معلقةً بالباب الذي سيدخلُ منه طبيبٌ يسبقهُ السلامُ، ونحنُ ننتظرُ مع بسمتهِ، ما يبدِّد شكوكَنا وخوفَنا.
هذا ما كان يشغلني في غرفتي وسريري الأبيضِ في تلك الأيَّام العصيبة، فقد كنتُ رغمَ المهدئاتِ لا أنامُ، ولذلك سببانِ منها الأصوات العاليةُ للأطباءِ والممرضاتِ وهم يتحاورون ويتناقشون وأحياناً يختلفون بأصواتٍ عاليةٍ جداً، في الممرات قرب غرفِ المرضى ليلَ نهار، وبدا ليَ ذلك أكثرَ من غريب، والسبب الثاني أنَّ عقلي لم يكن يتوقف عن التفكيرِ في أمورِ الحياةِ والموتِ، أسرتي وأهلي وأصحابي وأحبابي، وتتداخلُ الرؤى والصور، وشريط الحياةِ الذي يدورُ متقطّعاً، فأرى حياتي وما مر بها من أزمات وأحداثٍ جسامٍ وصعوبات. لقد كنتُ أنظرُ حينها في شبابي المبكر، وفي حالات الفقد الأولى، إلى الحياةِ من شرفةِ الموت، يقودني حزنٌ خفيضٌ، يبدو جليّاً في عينيَّ، وفي كتاباتي، التي تكشفُ هموماً صغيرةً، وأُخرى كبيرةً، بكبر وعظم ما مرَّ على أوطاننا وأمَّتنا، آمالنا وخيباتنا وانكساراتنا.
ومرَّتِ الأيامُ والأحداثُ، ولمْ تنقص الهموم، ولم يرحل هاجس الموت، ولكنني مُذْ بلغتُ الأشدَّ، وأنا أنظرُ إلى الموتِ من شرفةِ الحياة، فقدْ بلغنا اليقين، وثبتنا عليه، وصرنا بفضله أكثرُ قبولاً واستسلاماً للقدرِ بخيرِهِ وشرِّهِ، وإنْ تناهشنا الألم، واقتاتنا الحزن. لقد كانت تجربتي مع وفاة والدي، رحمة الله عليه، وسارة والدة زوجتي، أقلُّ وقعاً من سابقاتها، حين فقدتُ أخي، أو أختي، أو ابنتها، رغمَ عظَمةِ وقْعِ ذلك عليَّ.
ومِنْ بَعْدُ حين فقدتُ عمِّي وخالي، وأقربَ أصدقائي كالعزَّاز صالح، ومِنْ أصدقاءِ الطفولة والدراسة والحياة البلوي عبد الرحمن، وطلال ميرزا، وغيرهم كثير.
فما هو الموتُ الذي ارتبطَ بحياتنا، بحياةِ العربيِّ، على صعيدِ الفردِ، وعلى صعيدِ الأوطان التي مَزّقتْ معظمَها الفتنُ والحروبُ والثوراتُ والأوهام؟!
أوهامُ الربيعِ الخريفيَّةِ، وأوهامُ الثوراتِ الهلاميَّة، وأوهامُ العصابات المسلحةِ، والمعارضاتِ المرتبطةِ بالأجنبي ودولارتِهِ الخضراءِ وفنادقِهِ المخمليَّة..!
وأوهامُ الإرهابِ والإرهابيين، مع أفكارهم وأسلحتهم المعدة لإحداثِ أكبر قدرٍ من القتلِ والدّمارِ والخرابِ والفناء، هذا الإرهابُ الذي سيقودُ في نظرِهم إلى الدَّولةِ المثلى في الأرضِ، والجنّةِ العليا في السماء..!