مُبتدئًا بصوتٍ مهموسٍ، حنجريٍ - هو صوتُ الهاء - يُواجهُ الشاعر حسن الزهراني العام - المنصرم - باليوم الأخير منه، جاعلًا من هذا اليومِ يومَ قصاصه، ويومَ خلاص ذاته؛ يبدأ القصيدةَ بقوله:
هذا هو اليوم الذي
يمضي (بنعشك)
أيها (العام) المدوّن
في خضوعي...
بدأ الشاعرُ وعيدَهُ - ورثاءَهُ - لهذا العامِ، باسمِ الإشارة - هذا - الذي يبدأُ بصوتِ «الهاء» وهو صوتٌ حنجريٌّ مهموسٌ، ثمَّ صوتُ الذَّال - وهو أسنانيٌّ مجهورٌ، وهكذا بدأ الشاعرُ بأصواتٍ صادرة من الأسنان والحنجرة ، على نقيض ذلك يختتمُ القصيدةَ بصوتِ «العين»- وهو صوتٌ حلقيٌّ مجهورٌ - بما ينسجم مع وصول التجربة إلى ذروتها - الانفعالية - الكشفية؛ وبما يدفعني إلى افتراض وجود دائرةٍ صوتيةٍ مغلقةٍ - تكونت من البداية الحنجرية الأسنانية والنهاية الحلقيّة - تنسجمُ - وتعادل - الدائرة الجغرافية التي أشار إليها في عنوان القصيدة - أي الجهات الست والعشرين - وهي الجهاتُ الأصلية والفرعيةُ. وكأنّ الشاعر يواجهُ دائرة المكان -التي تمثّلُ قوى استلابه - بدائرة الأصوات المُختزنة في حروف القصيدة، والتي ترمزُ إلى طاقات الشعر وقدرته على الخلاص.
وإذا تأمّلنا مواضع صوتَ الهاء في القصيدةِ، وجدناهُ يشيعُ في المفردات الآتية:
هذا، هو، أيّها، الجهات، شهقة، هزيع، صهيل، آهات، وجهك (أي العام)، هزائم، فاكهة اليقين، قرقفها، الهامدات. وهذه المفرداتُ تتعلقُ بثلاثِ كياناتٍ، الأولى: كتلةً الزمان المُستلبة للذات، وذلك في: هذا، هو، أيُّها، وجهك. الثانية: كتلة الذات التي تواجه استلاب الزمان - والقوى الميتافيزيقية - وذلك في: آهات، هزائم، فاكهة اليقين، قرقفها، الهامدات، شهقة، صهيل. وقد أوحى الصوتُ المهموس - في كلا الحالين - بالوهن، وهن الذات في مواجهة قوى الاستلاب، ووهن القوى التي تتسلح بها الذات في مواجهة هذا الاستلاب.
أمَّا الكتلة الثالثةُ - التي تشيرُ إليها هذه المفردات - فهي كتلة المكان، وقد تمركزت في مفردة « الجهات »، التي تُشكل المرتكز الدلالي لعنوان القصيدة. وقد اشتملت - من الناحيةِ الصوتيّة - على صوت الهاء المهموس، وصوت الجيم - وهو صوتٌ غاريٌّ مجهورٌ- وصوت التاء، وهو صوتٌ أسناني لثوي مهموس.
أمَّا صوتُ العين - الذي اخْتُتِمتْ به القصيدةُ - فهو الصوتُ المميز لمفردة «العام»، وقد شاع في كثير من مفردات القصيدة - بما يفتحُ للنقد آفاقًا من الدلالة المباشرة والمتوارية - منها: النعش، الخضوع، الدموع، الشموع، السطوع، أعجاز (النخل)، عاشق، عقد الثريا، هزيع (الوجد)، روع (الشاعر)، الرجوع، الوعد، ينبوع الفجائع، المواجع، سواعد البشرى، الخشوع، المشاعر، الفروع. وكما نلاحظ، فقد كان صوتُ العين مشتركا بين مفردة العام - ككيانٍ مستلِبٍ - بكسر اللّام - وبين المفردات التي كان - بعضها - يُمثّلُ نتائج هذا الاستلاب؛ بما جعل صوتَ العينِ يبدو كحبلٍ مشيميٍ بين هذه المفردات.
طرح الشاعرُ الزمان والمكان- ماثلين في مفردتيّ «العام» و«الجهات» - باعتبارِهما كتليتين معاديتين لذاته، وطرح ذاته الإنسانيّة كيانًا مُحتَجَزًا مستلبًا بين هاتين الكتلتين.
o كذلك ارتكزَ الشاعرُ على أسلوب التناصِ -وهو من أساليبِ الأداءِ اللّغويّ - في إبراز دلالةِ تناهيه الإنسانيّ قبالةَ الزمان والمكان.من ذلك هذا الموضعُ الذي يخاطبُ فيه «العامَ»، قائلًا:
«قُمْ: وابن لي (صرحاً)
من الزفرات
علّي أستعيد الروح
من أعجاز (نخلٍ)
مات مشنوقاً
بشهقة عاشقٍ »
في هذا الموضعِ يقيمُ الشاعرُ - حسن الزهراني - أكثر من علاقة تناصيّة مع أكثر من آيةٍ قرآنيةٍ؛ فهو يتناصُ مع الآيات التي ساقها - سبحانه وتعالى - على لسان فرعون في خطابه لهامان، ومنها: «وقالَ فرعونُ ياهامانُ ابنِ لي صَرحًا لعلِّي أبلغُ الأسبابَ 36) أسبابَ السماواتِ فأطِّلعَ إلى إلهِ موسى وإنّي لأظنُّه كاذبًا 37» سورة غافر. ومن الواضح أن الشاعر قد احتفظ بالهيكل الدلالي للآية - بناء الصرح لبلوغ غايةٍ ما - ثم حدّدَ - في القصيدة - صرحًا بعينه - من الزفرات - وخالفَ دلالة النّص - شعريًّا -؛ حيثُ جعل الصرح لاستعادة الروح - لا لبلوغ الأسبابِ - وكأنه يطرح دلالة التوق إلى الخلاص. كما أقام علاقةً تناصيّةً - في الموضع السابق من القصيدةِ - بإشارته إلى أعجاز النخلِ - وذلك مع قوله تعالى: «فترى القومَ صرعَى كأنَّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ» - الآية 7 سورة الحاقة - وقوله تعالى: «تنزعُ الناس كأنهم أعجازُ نخلٍ مُنقَعر» - الآية 20 سورة القمر - لكنّ الشاعر يخالفُ الصفتين المطروحتين للنخل - في هاتين الآيتين - حيثُ طرح لنخله صفةً - أو مصيرًا - مغايرًا؛ هو الموتُ شنقًا من شهقة عاشقٍ؛ ممّا أبرزَ النخلَ في وضعيةٍ وجدانيةٍ منسجمةٍ مع الوضعية الاستلابية لذات الشاعر.
كذلك يرتكزُ الشاعرُ على أسلوب التناصِ - مع الآياتِ القرآنية - في موضع آخر من القصيدةِ؛ حيثُ يقولُ:
«وأفق قليلا
أيها العام المسجّى.
وانتظر من قبل أن
(يرتدّ طرفك) خاسئَ
الشكوى رجوعي...»
من الواضحِ أنّ النّصَّ القرآني المُستدَعَى - في هذا الموضع - هو قوله تعالى: «قالَ الذي عندهُ علمٌ من الكتابِ أنا آتيكَ به قبلَ أنْ يرتدّ إليكَ طرفُك...» الآية 40 سورة النمل. وقد أفادَ الشاعرُ من هذا التعبير القرآني- ارتداد الطرف - في دلالته على السرعة، لكنه خالف جانبًا آخر من الدلالة، وهو البشارة المُضمرةُ للنبي سليمان - عليه السلامُ - في هذا الوعد - حيثُ طرح الشاعرُ حالة ارتداد الطرف مصحوبةً بالإذلال والمهانة، من خلالِ تناصه مع قوله تعالى - في سورة الملك - «ينقلبُ إليك البصرُ خاسئًا وهو حسيرُ». وهكذا يطرحُ حسن الزهراني دلالةً خاصّةً من خلال هذا التضافرِ الدلالي بين موضعيّ التناص - في الآيتين السابقتين - فيصور العام المنصرم مرتدّ الطرف خاسئًا مهزومًا.
على صعيدٍ دلاليٍ آخر يطرحُ الشاعرُ كيفيةَ مواجهته استلاب الزمان عبر عدّة مُرتكزاتٍ - مُسندةً إلى ياء المتكلم - يبدو كثيرٌ منها نتائجَ هذا الاستلاب، مثل:
الدموع، ، الخضوع ، الجوع، الخنوع، الروع، الكآبة، الزفرات، القسمات القاحلة، الهزائم المنتصرة، الصبر المضمحل، الدروع - وهي زائفة فهي عبارة عن البسمات والآهات والنسمات - الرجوع. ولا يتبقى من هذه المرتكزات ما يُعتدُّ به - لمواجهة وطء الاغتراب والاستلاب - سوى مرتكزين:
الصلاة - ماثلة في السجدة والخشوع - والشعر - ماثلًا في إشارته إلى القافية - بما ينسجمُ مع دلالة كثيرٍ من الصور الشعرية ، التي تطرحُ الصلاةَ، والشعرَ خلاصًا، من ذلك: «وتطير بي فوق المواجع سجدتي ويضمّني بسواعد البشرى خشوعي»
«فانكأ بقافيتي دموعي»، «فامدد إلى الشعراء جسراً من ضلوعي»... «ساقط على الشعراء نخباً من سطوعي»... عقد (الثريا) في هزيع الوجد في جيد القصيدة وهي تسكن صمت (روعي).
وهكذا يبرزُ الشعرُ - في هذا الطرح للشاعر حسن الزهراني - كيانًا قادرًا على التّصدي لاستلاب الزمان والمكان، استلابِ الجهات الست والعشرين، واستلاب الزمن بما يحملُ من مقومات الحزن والهدم والتنغيص ونقصان العمر. ومن هنا تبدأُ القصيدة بالعام محمولًا على نعشه - مع اطّرادِ هذه الدلالة على مدار هذه الأسطر الشعرية - وتنتهي ببروزِ ذات الشاعر جليّةً بارزةً متصديةً في لحظةِ انعتاقٍ وخلاصٍ روحيٍ وإبداعيٍ.
- د. كاميليا عبد الفتاح حفني