بدا كتاب «الواحدة شوقا» للكاتبة منى العتيبي، الصادر عن دار المفردات للدراسات والنشر والتوزيع، بكامله، كأنه قصيدة واحدة في عدة قصائد، أو نص واحد من عدة نصوص، يحمل تفاصيل هموم امرأة يائسة تضمر سراً لا تبوح به إلاّ لشخص هامت به بكل أسباب الوله الجامح، فجعلت منه مثلاً أعلى في حياتها وخيالها حتى تلاشى المثل الخيالي الأعلى من حياتها وسط بيئها الاجتماعية التي تعيشها.. فلقد أرادت جاهدة إلغاء المسافة الذهنية بينها وبينه وأن تتحرر من رواسب الكبت الاجتماعي وما يواكبه من ذرائعية النفاق الأخلاقي.. وإرادته أن يكون تكملة لها بمحض اختيارها في مسيرة حياة إفتراضية، لكنه تركها في وعيها الذي تشظى لتجتر فيه طقوساً من الوجد المؤجل، وطقوساً أخرى تستبق أوانهاً، فيختفي عنها هذا «الافتراضي الباهت» الذي هو مثار أشجان العاشقة في هذه القصائد وهذه النصوص.. ويتوارى عنها في لحظاتها الثملى التي طالما استنزفت مشاعرها الشرقية المحافظة القابلة للكسر.. فانكسرت حقاً.. وانكسرت كثيراً.. وتهشمت من فرط همسات بوحها الصادق في ضجيج وقت الضحى وقمة حركته، وفي سكون أستار الدجى ومنتهى هدأته.. وتقوض كل الصدق الذي طالما أرادت أن تفصح عنه صراحة، حتى أضحى الصدق بمثابة أكذوبة كبرى إن لم يكن دلالة عليه.. بل إنها قد إرادته ألاّ يبحث عنها في القصائد الجزلة، وإنما في نهر ينبع من شلالات الطبيعة.. فهي طبيعية دون أن تكون طبيعية، ومتدفقة بهذا الوجد الذي يضج بجمالية النصوص في ديوان «الواحدة شوقاً» والذي يرقى إلى الواقعية النبيلة في بيئة إجتماعية لا ترقى إلى مستوى طموحها ولا مستوى تفكيرها ولا إلى تلك الواقعية النبيلة التي تؤمن بها إلا نادراً، ومن الناحية النظرية فقط..فجمالية نصوص امرأة تبحث عن الأمل، صنعت من الوهم خيالاً عارماً واستماتت في صنعه لنفسها العارمة وللطرف الآخر، المنطفئ الباهت، الذي كان هو الوهم المصنوع.. لكنها خلعت ذلك الوهم على واقعها كحقيقة ملموسة، وقدمت له نفسها لتتحرى منه شيئاً في هذا التقديم دون أن يتجاوب، ولتتحرى منه كل الأشياء دون أن يجيب رغم أنه لا يستحقها.. نقول لا يستحقها لأنها كانت هي الأمل الذي يمكن أن يبحث عنه اليائسون مثلها..فارتكبت خطيئة لا تغتفر بمثل هذا الصنيع الذي جازفت به وسط ظروف بيئية ونفسية معقدة.
***
يكتشف القارئ أن بطلة المشاعر الجياشة في كتاب «الواحدة شوقاً» تمتلك كامل حريتها وتمتلك كامل إرادتها.. لكن هذا القارئ لا يستطيع أن يكتشف لماذا تضع حريتها المطلقة وإرادتها الكاملة ضمن إطار التبعية من أجل طرف لاهٍ عنها -من خلال الوهم- رغم أنها لا تستحقه.. فغيابه عنها دائماً قد جعل واقعها مجدباً من ممارسة المشاعر والأحساسيس معه.. لكنها تصر بحضورها للاستحواذ عليه عنوة لممارسة هذه المشاعر وهذه الأحاسيس.. فقد قالت عنه بشغف بالغ ذات مرة في فضاءات الكتاب؛ بودي انتزاعه حتى من عينيّ أمه ومن صدرها.. قالت ذلك لأنه يمثل لها ضمير الفعل في الحياة، بينما حقيقة أمره أنه مجرد شخصية صنعته هي من خيالها.. فهو لم ينمو نمواً طبيعياً متدرجاً حتى في دنيا الخيال.. ولم يكن البتة في عينيّ أمه ولا على صدرها لحظة واحدة وإنما هو حالة هلامية فضفاضة..كان شيئاً من هذه الأشباح التي يمكننا رؤيتها تتسكع وتهيم هنا وهناك.. فاصطدمت بهذا المتسكع الهائم في دائرة اللامعقول.. ورغم أنها قد تمثلته بمثابة «حبيب الحرب» فإنها تتأمل مصيرها معه بعد الحرب في أكثر مواقع هذا الكتاب المثير.. تمثلته في مشاهد هزيمة نكراء وهي تعبر أماكن الحياة وأرجاءها بدونه.. حاملة هوية ورقية لا هوية إنسانية.. وعندما أرادت حجزه لرحلة حياة افتراضية مشتركة لهما معاً، بدا أنها تحجز لنفسها مقعداً إليه على لائحة الانتظار «وحيدة» بدونه..وعوضاً أن تلبس شيئاً للفرح، نجدها تتشح كل أشياء السواد للحزن عليه وللبكاء على نفسها من أجله.. ثم تهذي كالهائمة، هذياناً ينبعث من كل جوارحها وينبعث حتى من أصابعها ومن كل المطارات ومحطات القطارات.. فتحول الهذيان مصدراً لثرثرتها ومادة لثرثرة الناس.. ورغم انكسارها الدائم منه ففد ظلت تبحث له عن المبرر وعن المسوغ ليغفر لها.. كأنما قد ارتكبت جرماً يستدعيها للتكفير.. وتعترف بضعفها أنها امرأة «هوية» لا امرأة «قوية»، بينما هي قوية بالفعل دون أن تدري.. وتلك بحق هي كارثة نساء هذا الشرق، موطن الضعيفات على كل البسيطة.. وهي لو لم تكن كذلك لما استثارت مشاعرها «الشاعرة» في هذه الفضاءات المفتوحة، ولما كان قد استدعاها هذا السرد الشاعري الزاخر للبحث عن نفسها من خلال من لا يأبه بها.. فمثلاً في قصيدة «في معنى أن تحب»، نجد حراكاً يضج بالحياة ويزدحم بالتساؤل عما تعنيه الأحلام.. ونجد مساراً قوياً للهم الإنساني في الشاعرة قبل أن تضئ لنفسا «قنديلا ً» باهتاً في قفص عتيق من خلف باب موصود.. لأن القبائل التي بينها وبينه هي قبائل تحمل حراب الإدانة والإتهام.. ولا تكفر عن براءة صدفة جميلة أو تغفر غاية إنسانية سامية.. بل إن هذه القبائل تشكل محوراً من العقاب والعذاب ليس عليهما معاً، وإنما عليها هي بوصفها مجرد «هوية» رغم أن ما يربطها بالوهم السادر هو مجرد رباط ذهني من جانبها وليس من جانبه، ويجمعها به رباط استثنائي دون أن يكون مادياً بحيث إن «الشاعرة» تتعلق بكلمة واحدة تود سماعها من هذه الشخصية الضبابية فلا تجد شيئاً يقوله لها سوى تحاشيه عن عطائها له بكل الكلمات وعن شوقها نحوه بأروع العبارات.. وتنقش له في خافقها المعذب درجات تشنجها بسببه، بحضور قوي في كل فضاءات خواطرها طيلة صفحات الكتاب، لكنه يتحاشى خواطرها ويتفادى لغتها الجميلة بكل فتور وبكل برود.. وحيث أنها تضعه نصب ذاكرتها نجده يضعها نصب نسيانه.. ثم تحاول أن تستنسخ نفسها في مواقف مشابهة ببوادر من الأمل الخابئ في نفسها تجاهه، فتقع في حالات من القلق والتمزق والاضطراب، دون أن يقلق ودون أن يتمزق ودون أن يضطرب.. وعندما تبدي اعتناءها به وبأشيائه الخاصة جداً في «منديل أنثى»، بخيال أضناها على مدار عقارب الساعة المتحركة ببطء قبل أن تبلغ الواحدة شوقاً، فإنه يتركها فريسة للرثاء لتستمرئ رحلة خيالها بعيداً عنه تؤلف له أشعارها وتقول أغانيها وتزفر آهاتها.. وتحاول أن تواجهه أو تصارحه بمشاعر صادقة في أدق تفاصيل حياتها الخاصة بكل ما أسفر عنه هذا الكتاب الجميل الذي بين أيدينا، استجابة لأحلامها الجميلة من أجل أن تهدأ ومن أجل أن تستقر، لكن دون أن تكون له أحلام، ودون أن يثور، فهو مستقر بدونها.
رغم أنها شخصية متوهجة وتفاعلية جداً، فهو شخصية منطفئة وغير فاعلة جداً.. فبدا كأن هناك عرضاً يبحث عن مُطالب له دون أن نسمي ذلك تسويقاً لبضاعة شعرية مبثوثة من وجدان صادق، تجاه شخصية غير نابضة في المقابل، وبدون مقابل.. لذلك تقول «الشاعرة» في ذات موقع من فضاءات الكتاب المرهف كأنها تزفر غيظاً مكبوتاً، إن «دربها قصة.. وإن شوقها يهدّ».
***
المشكلة أن هذه الضحية المكبلة، هي التي تقود نفسها إلى مثل هذا المصير الملبد.. تقوده بشاعرية مرهفة وتقدم حياتها لمن لا يتسحقها بمثاليات جامحة وبصيغة تداولية راقية فيها كثير من التنازل فتعتبر نفسها أمينة على مشاعرها المتدفقة بوحي من عشق جامح امتلأ به صدرها ذات يوم بسبب أغنية شجية مرت في خيالها فكانت باعثاً لإلهامها وشرارة لأشجانها.. فأصبح من ثمّ هو الباعث لكل إلهاماتها وأن من حقها البوح همساً بهذه المشاعر لمن تحب.. ثم تنامى الإلهام بالحب فأصبح وهماً أقوى من الحقيقة.. فصدقت الوهم الكاذب حتى صار منطقياً وصار معقولاً من أجل تفعيل العلاقة، عوضاً عن احتضار العلاقة.
***
أروع ما في المجموعة هو تنفسها بالهوى العربي، وهو ما يعنينا أكثر من أي شئ سواه.. فجمالياتها تتوثب من خلال ترسيخ الهوية والشخصية العربية في مخيلة المتلقي، أو بالأحرى المتلقية.. وهي بمثابة ومضات مشحونة بالشجن الدفين في الأعماق وبإسناد لغوي مكتظ ترسخ نواتها في ذهن القارئ أو القارئة بإبراز القيم المتشابهة عند المرأة العربية في كل بلد عربي.. ففي «ضد التيار» نجد هذا الشجن الأنثوي صاخباً ونجده تعددياً وسياقياً متصاعداً يتفاعل بالحياة من المغرب العربي إلى المشرق وإلى الخليج، وليس نصاً راكداً أو تغريبة منفية من ذاتها.. فهو كسائر نصوص المجموعة تتجاوز محلية المشاعر فتصدح بالتعبير الشامل عن مجتمعات عربية مماثلة، فعوضت به المساحة الشاغرة في الوجدان وسدت فراغاً ينقص الساحة الشعرية الشاغرة بهذا الشمول وهذا الاتساع.. وبدت كغرس ثابت الجذور وأهزوجة صداحة تلقي بأفيائها وظلالها على آلام المرأة العربية وتتحدث عن ضعفها وأشجانها وأمانيها.. وعن قوتها أيضاً.. فتلامس مشكلات همومها وتعبّر عن حيرتها وترددها.. فالشخصية الإفتراضية التي صنعتها المؤلفة منذ البداية على أوراق الكتاب لم تكن إلا رمزاً من هذه الرموز الباهتة التي تعترض مسار المرأة العربية كل يوم وتحبط تطلعاتها في كل مكان.. تجربة بالوهم تستبق به تجربة الواقع لتقدير حجم الخسارة بعد المجازفة.. ولجس مدى الفشل الذريع في ثبات الحياة الأسرية في المجتمعات العربية من عدمها رغم ما يخشاه الناس من إثارة مثل هذه القضايا الشائكة بدعوى المحافظة على القيم.. دون أن يفكر هولاء الناس في وسائل المحافظة على تماسك هذه الأسر وبالتالي أن تعنيها من قريب أو بعيد محافظتها على القيم..
فماذا يمكن أن تفعله من تريد البوح الحالم إزاء من لا يعرف لغة البوح أصلاً.. أو من لا يقيم وزناً للأشجان الأنثوية الصادقة.. لعلها إشكالية الصراحة المفقودة في مجتمعات تعتبر الإفصاح المؤدب عيباً.. وتعتبر الإشارة الوقورة العابرة خدشاً للحياء.. وأن بث اللواعج المتوهجة مساساً بهيبة القبيلة.. بينما لا تعتبر لغة السوقة الذكورية الممجوجة إلاّ توهجاً يضئ بمكنونات الكبت والاحتراق وملاحم الغزوات لصاحبه..مفارقة عجيبة غير متكافئة.. ومغالاة حادة في جانب واحد من الجوانب تستحق الدراسة وتستدعي الإهتمام.
***
ولعله يعيبنا أن نرى نكوص الكثيرين ممن يشتغلون بالنقد عدم معالجتهم لنصوص مثل هذه لم تكن معروفة من قبل..كأنما أصبح النقد مصادرة للاستحقاق أو ظاهرة انتقائية في التصدي لمعالجة الأعمال الأدبية الجيدة للكاتبات العربيات.. فينأى النقد بنفسه عن دراسة إبداعاتهن فيما يمكن اعتباره نوع من القمع أو الإقصاء.. فقد باتت الساحة النقدية محصورة ومقصورة على «ثقافة الأسماء» حتى لو كانت تلك «الأسماء» فارغة من المضمون بسبب التهويمات الفجة التي نقرأها دائماً.. فليس كل من امتلك عمودًا ثابتاً أو عموداً «متحولاً» هنا أو هناك في الصحف السيارة، أصبح من الأعمدة.
***
نأخذ على المؤلفة أن الكتاب قصير جداً.. ليته كان بثلاثة أمثال حجمه أو أكثر ليتسع لكل الأشجان ولكل الأماني والتطلعات لدى المؤلفة.. وليستحق مساحة أوسع من النقد والتقييم..فهو جيد بهذه اللغة العميقة المتقنة.. وهو من الأدب الجميل المتمكن الذي مزج بين الوجودية والمثالية في أرقى صياغاتها.. فنصوص الكتاب توحي أن المؤلفة قد أضمرت وجداً مستفيضاً من نصوص أخرى لم تبح بها مخافة الإسهاب.. وهو ما يحسب عليها ولا يحسب لها.. وقد كان بودنا أيضاً أن تكون قصيدة «دوائر» هي آخر قصائد الكتاب في تسلسل يليق بالقصيدة ويليق بصاحبته، ويليق ايضاً بـ»البطل» الوهمي إن كان بطلاً -ليكون آخر ما يعرفه هذا «البطل» عن «الشاعرة» هو عدم غيرتها عليه وعدم مبالاتها به.. لأن في ذلك صيانة لمشاعرها النبيلة التي طالما اعتصرها الألم.. وتنهيدة حرّى طالما زفرتها من عناء قصة طويلة خائبة معه.. حيث لا يمكن توزيع الأدوار بينهما في مثل هذا الوقت المتأخر.. فهي تشخص ببصرها في الـ «دوائر» عندما استرسل في الحديث معها عن مغامراته.. فظن أن الغيرة تطحن العاشقة المستهامة بينما الحقيقة أن قسماتها كانت تنطق بأبلغ ملامح عدم الاكتراث.. فكانت هذه الـ»دوائر» الرائعة هي النهاية التي تليق بكرامة امرأة عربية قدمت نفسها كثيراً لشخص ما دون أن يأبه بها من قبل.. فوجد أنها لا تأبه به من بعد.. وتلك هي الآثار المريعة لقصة الأشجان عندما تكون مكبوتة، وتلك هي استحقاقاتها المتوخاة.. فتولى «البطل» إياه يقف لأول مرة فوق مدرجات مسرح عتيق أصبح الآن مهجوراً.. مسرح لطالما وقفت عليه امرأة بمفردها في أسجاف معتمة من الليل عندما سرى، بكل ما ساورها من بواعث الافتتان العذري والأفلاطوني حتى تمام «الواحدة شوقاً».
- فوزي البيتي