- 1 -
أفضت التحولات التي شهدتها فرنسا - منذ بداية العصور الوسطى - إلى ولادة سياق ثقافي جديد، يتأسّس على العقل والاختلاف وقيم التنوّع في الثقافة الحديثة، ويتصل - خلافاً لما مضى - بعالم الإنسان المعيش، فبدا الإنسان عاجزاً في ظلّ هذا السياق عن التلاؤم مع فنون المنظومة الثقافية القديمة بما في ذلك الأدب؛ الأمر الذي مهّد لنشوء بواكير أدبية آلت - بعد نضجها - إلى ما يعرف اليوم بالشكل الروائي؛ ليكون شكلاً سردياً جديداً، قادراً على التعبير عن هموم المرحلة الجديدة، والتفاعل مع هواجس سياقها الثقافي، ومسؤولياته الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية (انظر: الصادق قسّومة: الرواية نشأتها ومقوّماتها في الأدب العربي الحديث، ص20-22).
وهذا يعني أنّ ولادة الشكل الروائي كانت استجابة طبيعية لسياق ثقافي جديد له سماته وخصائصه، التي منها تأسّسه على قيم التعدّدية والانفتاح، وتعاطيه مع الفردانية والعقلانية؛ ولهذا كانت الرواية فنياً مشتملة على هذه المفاهيم، كالتعدّد (الذي نجده في تنوّع الشخصيات والأزمنة والأمكنة والرواة)، والتعدّدية (التي نجدها في إتاحة المجال لظهور الشخصيات المختلفة ممثلة في أقوالها وأحوالها المتباينة)، والانفتاح (الذي نجده في اتساع المدى الزمني، وتعدّد الأمكنة وانفتاحها، واستيعاب الأجناس الأخرى، ومساحات التجريب)، والعقلانية (التي نجدها في المنطق السببي، ومنطقية العلاقات). ومثل هذا السياق الثقافي هو الحدّ الأدنى الذي تحتاجه الرواية لتؤدي من خلاله وظيفتها الفكرية والجمالية، وهو السياق الذي يمكن أن تتشكّل فيه أسئلتها العميقة، بل قد لا يكون واقعياً الحديث عن مدوّنة روائية فاعلة خارج هذا السياق (مادياً أو معنوياً)!
- 2 -
حين نلتفت من هذه الزاوية إلى المدوّنة الروائية السعودية سنقع على مفارقة جديرة بالاهتمام، ألا وهي ولادة الرواية السعودية الأولى (التوأمان) قبل ولادة السياق الثقافي الذي تحتاجه الرواية، فكانت الرواية الأولى والأعمال الروائية التالية دون أن يكون لها حاضن ثقافي، يتقبّل الرواية فضلاً على تبنّيها وإثرائها!
وإذا كانت الرواية العربية قد تأثرت - في مصر - بالرافد الثقافي والجمالي الغربي من خلال سياق ثقافي جديد إلى حدّ ما، فإنّ الرواية السعودية قد تأثرت في بداياتها بالرواية المصرية، أي: برافد من درجة ثانية؛ فقد تأثّر عبد القدوس الأنصاري (رائد الرواية السعودية) بما أفرزته النهضة العربية من قضايا في مصر، وعلى رأسها قضية الهُويّة وموقفها من الصلات الحضارية، وذلك بحكم علاقته الوثيقة بمصر وأدبائها؛ إذ كان ينشر مقالاته في صحفٍ مصرية، وكانت له رحلات كثيرة في طول البلاد العربية وعرضها (كما يشير أكثر من مرجع)، ولهذا التواصـل جوانب ثقافية مهمة، من أهمّها أنّ أولى مقالاته نُشِرت في مجلة «الشرق الأدنى» المصرية عام 1346هـ أي: قبل صدور روايته «التوأمان» بثلاث سنوات تقريباً، ولقد استمرَّ بعد ذلك في نشر مقالاته في عدد من الصحف المصرية الكبيرة كـ«الأهرام» و«المقطم»، و«المعرفة المصرية»، وفي مجلات مهمة كـ«الرسالة» مثلاً. وتواصله مع هذه القنوات الثقافية المهمة بالكتابة يؤكد لنا تواصله معها بالقراءة، وما من شك في أنّ هذه القراءة مكّنته من الاطلاع على نتاج الأدباء والمثقفين من روائيين ونقاد، ولعلَّ اطلاعه على ما أنتجه الروائيون في مصر منذ البدايات وحتى رواية «زينب» هو ما دفعه إلى أن يستهلَّ روايته «التوأمان» بقوله: «وهي وإن تكن غيرَ مسبوكة تماماً على أصول الفنِّ الروائي العصري، فقد يجد القارئ فيها صورة صحيحة عن أضرار المعاهد الأجنبية، المؤسسة في الشرق نفسه»!
وعليه فقد تعاطى الأنصاري مع سياق ثقافي خارجي، واختار إحدى قضاياه ليسقطها - من خلال عملٍ روائي - على سياقنا الثقافي الذي لم يكن قادراً آنذاك على الاستجابة لاعتبارات هذه القضية. ولعلّ مفردة «الشرق» الواردة في المقتطف السابق تدلُّ دلالة واضحة على هذا، إذ يشير من خلالها إلى الضرر الناتج عن تأسيس معاهد أجنبية في الشرق بمعناه العامّ وليس في السعودية وحدها، لأنه لم يكن في السعودية آنذاك نظام تعليمي حكومي فاعل، فضلاً على وجود (نظامٍ تعليمي) ينفتح على معاهد أجنبية!
إنّ استعارة سياق ثقافي من الخارج لتدشين مرحلة الريادة في الرواية السعودية ومن ثمّ البناء عليها هي لحظة الخلل الأولى في تاريخ مدوّنتنا الروائية - بل الخليجية بوجهٍ عام - وأحسب أنّ هذا الخلل ما زال ينشط في مستويين، أحدهما: علاقة الرواية بالسياق الثقافي، والآخر: وعي الروائي والمتلقي بماهية الشكل الروائي وسماته وخصائصه.. (وللمقالة بقية).
- د. خالد الرفاعي