د. عبدالحق عزوزي
لطرح إشكالية الهجرة في الفضاء المتوسطي بطريقة علمية بعيدة عن المنظور الأمني الوحيد الذي يتبعه السياسيون الأوروبيون، من اللازم وضع رؤية أكثر توازناً لهاته الظاهرة على اعتبار أن الأمر ينظر إليه كإغناء متبادل في حين تعده دول الضفتين تحدياً، وهذا حسب تعبير الخبيرة العالمية كاترين دي فندن يولد نفاقاً دولياً يرمي إلى تخفيض التبادل الاقتصادي وجعله يقتصر على عمليات تحويل أموال المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (14 مليار يورو) وخلق شراكة تشمل المشاريع الصغيرة، في حين أن هناك ضرورة لإرساء مقاربة ماكرو اقتصادية واجتماعية، وعودة المهاجرين إلى الاندماج في الوقت الذي لا يتعلق الأمر بعمليات الترحيل،كما أن هذا النفاق يخفي اختلاف مصالح الدول داخل الفضاء الأورومتوسطي.
وهناك على العموم ثلاثة حلول يمكن تبنيها، أولا: ضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وعدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل ديمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن؛ وهذا مطلب يلح عليه شباب الضفة الجنوبية الذين يسعون إلى تحقيق حرية التنقل؛ كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها والمتاجرة بالوثائق المزورة.
وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري لدول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي في أغلبها تنجم عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية. وتتقاسم دول الضفة الجنوبية هذه المقاربة الأمنية التي طورت بدورها سياسات مضادة للهجرة وشددت المراقبة، مما أدى بالمهاجرين إلى سلك معابر شاقة وأكثر خطورة (قناة سيسيليا بدل لبريندسي وجزر الكناري عوض مضيق جبل طارق).
وتشير كل الأبحاث أنه كلما كانت الحدود مفتوحة سهل مرور المهاجرين (كما هو الحال بأوروبا الوسطى والشرقية منذ سنة 1991)، وكلما أصبحت التخوم مغلقة كثر التهريب وأضحى المهاجرون يستقرون بصفة عشوائية حينما تنقصهم الوثائق اللازمة نتيجة عدم القدرة على المغادرة أو العودة فيما بعد. غير أن الهجرة تعد عاملاً لتحقيق التطوير الاقتصادي وتحقيق التقدم السياسي والاجتماعي والثقافي، وكثيرة هي دول الجنوب التي ليس لها حل بديل على المدى القصير سوى الهجرة كأفق بالنسبة لفئاتها المؤهلة وغير المؤهلة في الآن نفسه. كما تعد الهجرة عاملاً لإعادة التوازن الديمغرافي بين الشمال والجنوب (إذ إن 50 في المائة من سكان الضفة الجنوبية تقل أعمارهم عن 25 سنة، في حين أن هناك الكثير من دول الشمال التي تعاني من تداعيات الشيخوخة).
وتشكل الهجرة حلاً لبطالة شباب الجنوب ونقص اليد العاملة في دول الشمال ودول العبور، في سياق تجزئة سوق الشغل؛ وهكذا فإن الحق في التنقل يمثل شرطاً لتحويل المهاجرين إلى فاعلين في الفضاء المتوسطي، إذ يحظى به أولئك الذين اكتسبوا الجنسية بدول الاستقبال، أو الذين لهم رخص إقامة تسمح لهم بالتنقل بسهولة، بمعنى المهاجرين الأكثر تأهيلاً وكذلك الذين أقاموا لمدة طويلة بدول الاستقبال، وإلا أصبحت الحدود مصدر كسب للمهربين وتؤدي إلى تفاقم التكلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين الضفتين لأنها تجعل عسيرًا الحوار والتبادلات بين الجانبين.
هذا الكلام هو الذي كنا نكتبه وندافع عنه طيلة عقود في الجامعات والمؤسسات الأوروبية، وتبلور عن هذا التوجه برامج جريئة وكتابات جادة وأفكار علمية لتحقيق المبتغى الإنساني، ولكن الذي يجري اليوم من حروب ضروس في عدة بلدان متوسطية كليبيا وسوريا وأخرى شرق أوسطية جعلت العديد من المفكرين والكتاب الغربيين يتنازلون عن مبادئهم الأولية رغم ما وصلتهم طيلة سنة 2016 من صور لا سابق لها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي صور معبرة عن معاناة اللاجئين والمهاجرين في دول أوروبية وعالمية مختلفة شكلت عناوين نشرات الأخبار على مدار عام 2016، خصوصاً في مخيم إيدوميني عند الحدود اليونانية الهنغارية حيث تعرض المهاجرون لصنوف من العذاب والمعاناة، وكذلك غرق الآلاف منهم وانتشال جثثهم من عرض البحر خلال رحلات اللجوء بحثاً عن حياة آمنة، وفراراً من جحيم الحروب الأهلية والفقر. تقول تقارير المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة: إن عدد المهاجرين الذين ماتوا غرقاً خلال محاولتهم عبور البحر المتوسط عام 2016 وصل إلى 3800 شخص، وهو رقم قياسي، ولربما كان التوجه الأوروبي في استضافة المهاجرين أكثر مرونة لولا الإرهاب الأعمى الذي ضرب دولاً مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا ليدفع الثمن كل من المهاجرين الأولين والآخرين وكذا اللاجئين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.