د.فوزية أبو خالد
حب أول
سُمِّيت الرياض العشق الأول واللحاف الأخير، نحت مكة مراودا للعيون، رسمت الطائف بساتين والسروات مصيرًا، وسمت وادي العقيق مسرى للدم، عزفت أجا سلالم للمجد والحسا هديل النخيل، غنيت تاروت نهرًا وسكاكا سلسبيلاً، خطيت العُلا هامة..
ونجران مواعيد للهوى وظبا أفراسًا تطير، كتبت مرات ولم تكل يدي وطنًا من أمل لا يريد أن يلين..
في الصغر والكبر تظل طعنة العشق الأولى طازَجة متوهجة، طعمها يشتعل وجعًا ولذة، لكنه لا يستطيع التشبه بأي رعب سابق في الذاكرة، فلا يمكن إلا أن يجفل الجسد المجرب من رعشة الدهشة وكأنه ألم أول ليتدفق الدم بعذوبة قارسة تشيع في حلكة أضيق الأماكن مساحات ضوئية شاسعة.
في طفولة أو صبا - ما-، لم يكن الوقت قد تدخل بعد لإفساد لذة الفجيعة أو تواطأ عكس انتظام دقات القلب كان منسوب السراب ما يزال عاليًا في الدم.. وحبوب السكر لا تزال تعمل بنشاط على منع احتمالات الدخول في غيبوبة مؤقتة أو أبدية، كانت وجوه البنات الأبناء، الجيران والأصدقاء بعد قريبة ضاجة بنوافير اللقاءات اليومية والمواعيد.
كان إحساس جماعي بالعشق يبدد وحشة النوم والصحو بعيدًا عن كهرمان عيونها واندلاع ابتسامتها ومشاحناتنا العابرة وحبها الدباح وآفات غيرتها ورائحة شعرها بعد الاستحمام ونكهة طبخها وعسل شفتيها وصراخها على الأطفال وصبرها معي.. ولم أعلم أنني مجرد غر لم أغادر مواقع الحب الأول، وكل ما قد أملكه من أسلحة العشاق شجاعة الأخيلة وطيش الشعر أشهره على الأشهاد لمقاومة الشفاء من براثنها ونفثها وتكرار الوقوع طائعًا مختارًا في شراك سحرها، أحاول أن أعرف في لفتاتها من تكون فلا أخال فتنة تشبهها سوى بلدي.
حب أول للمرة الثانية
من سمى الولادة الساعة المنسية لم يجرب آلام الولادة وتشقق الأوردة وتمزق الشرايين مع كل موجة صاعقة من أمواج الطلق.. من ظن الشعر إلهامًا لم يعرف التعرق من أعلى حبال الرقبة إلى أخمص مشط القدم وجر الروح خارج غلالة البدن على أشواك مكهربة.. هكذا أتدرب بصمت على تجريب أعنف ما جربته الإنسانية من أحاسيس سامية وسادية فلا أجد في اللغة ما يعادل التعبير عن تلك الحالات من الخيلاء.
تلدغني عقارب الوقت وتعانقني أفاعيه مدلية أعناقها اللينة في رئتي تمتص ما في صدري من بقايا هواء، بينما أمتع حاسة البصر بالألوان القزحية الممتقعة التي تحفز تلوياتها مسام بدني على إفرازها.. انغمس في متع عد اختراقاتها لصخرة الجدار فمرة تدخل ببشرتها المشربة بسمرة العناب ومرة بغمازة ذقنها المقطرة من أقحوان القمح ومرة ببروق قامتها والتماعات مكرها ومرة بسواد شعرها وحلي لمساتها ومرة بحليب نحرها فانشغل عنها وعني بملاحقة أطيافها التي لا تعد ولا تحصى، وأتأكَّد أنني مازلت على العهد وأنني ما زلت أحيا. أحار في تلك الحسناء من تكون فلا أجد لها اسمًا سوى وطني.
حب أول للمرة الثالثة
صرت أكيد للمسافة الفاصلة بين دقات قلبها وقلبي بكتابة أشكال متخيلة من قسوة الرحيل على المساحات التي لم تأكلها الجدران من جلدي.. فأكون محمولاً على أكتاف تمضي بي في صمت إلى قبري دون ريشة ترف من كفها على كفني ودون أن أعلم دواعي قتلي.. أكون في بلاد مكللة بالثلوج أنتقي لها معطفًا من فرو الرنة يليق بفحيحها في بردي وقيظي.. أدخل حروبًا غير عادلة لتخليص خلاخل رجلها من أظلاف قذرة تنهش كبدي لمجرد تصريف فائضها من الجنود والأسلحة والشعارات.. أجوب قارات مجهولة وأتيه في فلوات محروسة بالجن وأهلك على طرقات ملغمة تفتك بي الغربة وتقرح ركبي المسامير من أجل أن أجلب لها خواتم بمقاس أصابعها العالقة في جهازي العصبي.
أتخيلها وأتخيلني وقد تقاسمنا ملح التراب وخبز النخل فمن الذي وشى بيننا وأحل لها التشكيك فيما ألقى في سبيل شموخها من صبابات ومن وجد.. ما الذي حل بينها وبيني لاستحق فاجعة الفراق، لعنة الإبعاد، شماتة الأعداء، توجس الأصدقاء ملامات أمي، تعنيف أبي ومن يجهلون تتيمي بصحرائها وبحرها بأرضها وسماها بقحطها وغيثها في علانيتي وسري.. فعلى من غير الله أشكو بثي وحزني.
حب أول للمرة الرابعة
كلما اقترب الصيف اشتدت الشمس على قفري.. أقرأ صحفًا كما قال الشاعر التونسي المزغني يابسة كالأرغفة البائتة أو هكذا تنزل الكلمات والمنشتات والأخبار في بلعومي فتكاد تسد مجرى أنفاسي.. أخبار استمرار القتال في العراق على الهوية الطائفية، صور تفرفط ريش الروح مع أشلاء مدنيين تطاير في الدخان في شمال لبنان وجنوبه، أخبار التحول الخريفي الاقتلاعي العاصف لأبسط أحلام الربيع العربي، صور أطفال سوريا يتحللون أمام الكاميرات بجبروت السلاح الكيمياوي والعشق السادي للسلطة، شعوب يتحول عزها إلى ذل في المخيمات وفي السجون والمعازل، أخبار انفجارات ومطاردات وانقلابات وانقلابات مضادة وخلط متعمد للأوراق وحرق في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد لمستقبل المنطقة القريب وربما البعيد وليس منا إلا ويده في النار وإن بدا لمن يعانون من خداع البصر أو قلة الإحساس أنها في الماء أو في النفط.
حب أول للمرة الخامسة
لا استطيع أن أخفي خوفي مما يجري أمامي ولا استطيع أن أعفي نفسي من مسؤولية الإخفاق في درء أسباب الخوف. ولا يستطيع أي منا أن يقول: إنه لا ينظر بتوجس لمجريات الحدث السياسي وبأنه لا يقلب جميع السناريوهات المحتملة لتفسير ما يجري في هذه المنطقة دون أن تقض مضجعه أسئلة المستقبل. فكل شيء يتحرك بسرعة مهلكة لا تكاد أن تتيح فرصة لاستيعاب ما يجري. فمن سقوط الاستعمار وصعود العسكر ومن سقوط القومية العربية الفضفاضة وصعود القطرية الضيقة ومن تراجع حركات اليسار واليمين والتخبط في الإسلام السياسي والخروج به أو الخروج عليه إلى انتكاسات بادرة الربيع العربي وكل شيء يتخلخل في تقويض مستمر لأي إمكانية بتراكم نوعي.
حب أول للمرة السادسة
أعيد بكاميرا الذاكرة قراءة كتب كنت أريد قراءاتها قراءة ثانية.. أسرج قناديل ودموعًا وقصصًا وشخوصًا مغمورة مثلي، وأدير معها حوارات حارة دون أن أجد كلمة تشفي الغليل أو تكشف غموض كلمة غد.
حب أول للمرة السابعة
هل يجب ألا نأخذ كاسنجر وزير الخارجية الأمريكي العتيق على محمل الجد حين يقول: من لا يسمع طبول الحرب العالمية فهو أصم حيث ستستولي أمريكا على أقدار الدول والشعوب في العالم ويؤول لإسرائيل أكثر من نصف منطقة الشرق الأوسط بعد تفكيك المنطقة أو نأخذ بالمثل القائل خذوا أخبارهم من خبرائهم وإن تقاعدوا. لهفي على أرض تمزق بأيدينا وبأيدي سوانا شر ممزق ولسنا ندري من نلوم. ولسنا في وارد مقاومة الكارثة قبل أن تقع أو على الأقل قرع الجرس.
حب أول لا منتهى له
حين يجرح مفاتيح كمبيوتري السهر أخذ نفسي من يدي بيدي إلى داخل نفسي وأبدأ بالتنقل بين خلجانها وبرازخها ومضائقها وخيط آفاقها في فتنة من مباهج الأحزان وثورات الغضب واحتراق الأحلام وقلق الآمال وبهاء الهزائم وزهو التحليق وتكسر الأجنحة في فضاءات حب أول لا منتهى له. أتحسس وطني مدينة مدينة وقرية قرية أتفقده ساحلاً ساحلاً وفلات فلات ومدرسة مدرسة، أفحص في ذرات ترابه دقات قلبي. ليس هذا ما كنت أريد كتابته حين شرعت في الكتابة ولكن كما نحلم أحيانًا ويخوننا التأويل فإننا نكتب أحيانًا ونخرج على النص المزمع أو ندخل الكمين المتربص بين المعيشة والعشق وبين السياسة والشعر حبًا وكرامة.