د. حسن بن فهد الهويمل
ما برمتُ من شيءٍ برمي من أشياءٍ ثلاثة:-
- مَوْضَعَةِ الذاتِ الإلهية، وما نتج عنها من ويلات، تنداح يوماً بعد يوم.
- التعاطي مع [الفتنة الكبرى] كما يسميها [طه حسين].
- الحماس المتشنج في الدفاع عن المحدثات، كـ[المولد النبوي].
هذه الأشياء، ومن ورائها سلسلةٌ ملتهبةٌ من المسائل المحررة، وغير المحررة. والمعارف المؤصلة، وغير المؤصلة. المذكية للخلاف الذي فرق كلمة الأمة، وشتت شملها، وأركسها في مستنقع التنازع، المؤدي إلى الفشل، وذهاب الريح.
وكان الأجدى أن تظل تلك المسائل في غياهب التاريخ، فالفخ مليء بـ[الفِيَلَةِ] فضلاً عن العصافير، والقول في قضايا الأمة غدُوٌ معتقٌ، أو موبقٌ، مُشَرِّفٌ، أو مخزٍ.
تغدو [النحلة]، و[الذباب] إلى الأزهار، والأقذار، فيعود النحل بأنساغ الأزهار، فيما يعود الذباب بأوبئة الجراثيم. وكذلك الإعلاميون، والمفكرون المراوحون بين القواسم المشتركة، وبؤر التوتُّر، ومضائق الاختلاف.ومما يعمق الخلاف استخدام التقنية الحديثة، المتمثلة بالقنوات الفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي، من متقحمين لتكريس الذات، وإقصاء الآخر، وإجهاد الأنفس في النبش عن سقطات المخالف، وعدم التماس العذر له. إذ لكل عالم سقطته، ولكل مذهب مفرداته، ومختاراته، وشواذه. وباب [التأويل] واسع، وسبيله محفوف بالمخاطر.
واللغة بوصفها وعاء الفكر تستبطن تناقضاتها في ذاتها. وهي مصدر الاختلاف، فمفرداتها، وجملها حَمَّالةُ أوجه. وكل ذي هوى يجد في احتماليات الدلالة مسارب، وملاذات، ومطايا لتكريس رؤيته.
وكل متأول مُبطِل يتوسل بمراوغة اللغة، ليضخِّمَ ذاته، ومذهبه. والضحية لهذا التشظي أمتنا الإسلامية، التي لم تَجْن من هذا النزاع إلا الضعف، والوهن.
وإذا كان الذكر الحكيم قد حسم الموقف بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أفلا يكون بإمكان نُخَبِنا أن يقولوا للمخالفين: [لكم تأويلكم، ولنا تأويلنا].
لقد ظهر [علم الكلام] عندما حاول الإنسان الفضولي الطُّلْعةُ تصور الذات الإلهية من خلال النص، أو العقل تأسِّيًا بـ{أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، و{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}.
واختلف أهل السنة والجماعة مع أنفسهم، ومع غيرهم حول إدارة النص في فلك العقل، أو إدارة العقل في فلك النص.
وبدأ الصراع المميت بين الدلالة الوضعية، والتصور العقلي. والتبتل الوجداني، والهوى المطاع وفات الهالِكُون أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فعندما ترد كلمات [الاستواء] و[النزول]، و[الجهة]، و[الوجه]، و[اليد] و[الساق] وغيرها من الصفات، تتنازع المتلقين حقيقة الجوارح، وكيفيتها، وإمكانية تبعيض الذات، وحاجتها لأجزائها. وهي توهُّمات لا تليق بالذات الإلهية.
وأمام هذه الموبقات فر البعض إلى التأويل، أو التعطيل، أو التمثيل، أو التكييف، أو التفويض المطلق.
وفات كل اولئك أن النجاة تكمن في إثبات ما أثبته الله، ونفي ما نفاه على سنن إمام دار الهجرة [مالك] رحمه الله:- [الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة].
وفوق هذا اضطربت الآراء حول الحلول، والأينية: - أين الله - والتحيز، والعلو. بحيث أصبحت الذات الإلهية كلها مجال اختلاف: صفة، وحَيِّزًا.
وفات أولئك أنهم في كل صلاة يرددون:- [سبحان ربي الأعلى] وإن كانوا يُؤَوِّلونها بـ[علو القدر، لا علو الذات] ويختلفون حول حديث الجارية.
ذلك شطر من تزييف الفكر، ونزيفه. فماذا عليهم لو أنهم قبلوا اللغة وسيطاً بينهم وبين ربهم، ولاذوا بالضابط الأقوى:- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان يراوح بين التحقق، والتفويض، والحقيقة، والمجاز.
وكيف يتأتى تصور الذات الإلهية، والجنة المخلوقة فيها ما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ذلك مثل من تجاذبات أضاعت الأمة، وأوهنت عزماتها، وفي الأثر:- [تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الخالق]، {ومَا قَدَرُوا اللهَ حَق قَدْرِهِ}.
وبعد أن حط المشْأمةُ رحالة في [إيران] انبعث خلاف كان محبوسا في قمقمة. خلاف بين: [السنة] و[الشيعة] تؤطره أغلفة الكتب. ويتداوله المتخصِّصُون بمعزل عن العامة.
جاء الرفض المجوسي، ليفسد ما بين [العربي السني] و[العربي الشيعي]، وكان الصحابة رضوان الله عليهم مادة الخلاف، وذخيرته.ومن يصفون أنفسهم بالاعتدال، يستدعون [معاوية] رضي الله عنه، كفاتح الشهية بوصفة من الطلقاء الخارجين على [علي] رضي الله عنه. والأكثر اعتدالاً من يقولون [العن يزيدًا، ولا تزيد].
وكم هي أمة مغلوبة على أمرها. حوَّلها الصراع الفكري إلى أمة فاشلة، هامشية، مفخخة الأدمغة، ملغمة السبيل. يجد فيها أعداؤها مادة [متفجرة]، مثلما وجد الاستعمار [البريطاني] في الهند [البقرة] سبيلاً لإثارة الفتن. إذ كلما خبت نار الصراع الديني، قتل المستعمر [بقرة]، واتهم بها المسلمين.
لقد استعظم أحد المفكرين الغربيين تصاعد التناحر حول [علي] و[معاوية]، وأيهما الأحق بالخلافة. فسأل عن مقر كل منهما، متوهماً أنهم أحياء يرزقون.
ولما علم أنهما قد قضيا نَحْبيهما قبل أربعة عشر قرناً، ضرب كفاً بكف. وصاح:- ما أضيعها من أمة!.
لقد أُتْخِمْتُ من قراءة [ظاهرة التشيع]. وحقلُها في مكتبتي يزداد يوماً بعد يوم، وما كنت متفائلاً بالتقارب، ولا مُرَحِّبًا بطرحه كمشروع توفيقي. بل مِلْتُ إلى التعايش، والتعاذر، وتعليق مسائل الاختلاف، حتى يبعث الله من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
و[معاوية] رضي الله عنه بوصفه صحابيًا مفضولًا بإزاء [علي] الفاضل يعد الورقة الأكثر تداولًا. لقد ضلت فيه أفهام، وزلت فيه أقدام، وأحبطت فيه أعمال.
حتى أبناء [السنة] جُرَّت أقدامُهم لهذا الوحل، فـ[معاوية] تحميه صحبته على ماكان منه من عمل. وفي الأثر:- [ماضر عثمان ما عمل بعد اليوم]. إنه خليفة راشد، ومبشر بالجنة، وإن لم يشهد بدرًا، ولا بيعة الرضوان.
ما أؤمن به، وألقى الله عليه، وما تطمئن إليه نفسي، رفع ملف [الفتنة الكبرى] وحفظ الألسن من الولوغ في أعراض صفوة الصفوة من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، وآل بيته، وأهل بيته الذين مات وهو عنهم راض.
الصحابة هم حملةُ الرسالة، المؤتمنون عليها وعلى القرآن، فهم حَفَظَتُه، وجُمَّاعُه، من مهاجرين، وأنصار، وطلقاء، وإن بدر من بعض مفضوليهم ما يدير الرؤوس، ويغثي النفوس.
يتبع...