د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كانت رحلتي لمدينة الأقصر في مصر الشقيقة قبل ثلاثة عقود مليئة بالمواقف الطريفة الصادمة، لعلي أشاطركم بعضاً منها. فقد كانت الأقصر في فترة أعياد نهاية السنة مكتظة بالسواح الأجانب حصراً من فئة الخواجات. وخلاف لما توقعت، لم تكن هناك أية غرفة شاغرة في أي فندق من الفنادق القلية جداً المنتشرة فيها، ولولا لطف الله، وتعاطف صاحب فندق صغير قبطي لعدت أدراجي دون زيارة هذه المنطقة الرائعة الجمال. وبعدها بليال قليلة انتقلت لفندق كبير ومن هنا بدأت المفاجآت. كان العشاء يقدم في ساحة الفندق لأعداد كبيرة بمصاحبة عرض رقص بلدي بدأي بليد، وقُدم العشاء للجميع باستثنائي، وعندما سألت رئيس النُدُل عن السبب، أجابني بأنه يتوجب الانتهاء من خدمة الضيوف الخواجات ثم التفرغ للعرب. واستشفيت من إجابته شرح لكثير من الأمور التي تعلمتها فيما بعد عن الكرم العربي- الخواجي.
الأقصر أغنى منطقة في العالم في الآثار، والمعابد والمقابر الفرعونية في صعيدها غاية الجمال والإبهار إضافة لقيمتها التاريخية التي لا تقدر بثمن. وطريف بالذكر أنه في ذات مرة دخلت فيها أحد المقابر في وادي الملوك مع مجموعة كبيرة من السواح، ففحصني الحارس بنظره الثاقب ليعرف ما عسى أن أكون، فزيارة هذه الأماكن غير مألوفة لغير الخواجات، ولم أكن أبيضاً ولا أبهقا، فبادرني بالسؤال: الأخ ياباني؟ فأجابته قهقهتي: هل تراني ياباني؟ ولو كنت يابانياً هل أجيبك بالعربية؟ فنظر لبئر حديثة الحفر بجوار مكتوب عليها «ممنوع النزول قطعيا» وأردف: هات خمسه جنية وانزل! فنقدته فوراً بعشرة جنيهات وبادرته ناهراً: هذه لك ورجاءً لا تسمح لأي أحد بالنزول! تساءلت لوهلة بعيد ذلك، كيف يوكل لرجل بسيط غير مدرك مهمة كهذه. وعرفت فيما بعد أن كثيراً من الناس يجهلون كثير الأمور فيما يستأمنون عليه.
رائعة كانت زيارة صعيد مصر، أهم وأغنى منطقة في العالم، صعيد كريم ملأ متاحف العالم الكبرى بالآثار التي فرط أهله بها فجلبت لغيرها آلاف مليارات الدولارات، ويعيش في منطقته اليوم شعب متدني التعليم، يصارع الفقر والبؤس بعد العظمة والشموخ. من أن السواح يتقاطرون عليه من أصقاع الدنيا تقاطر النمل على قصعة العسل، باستثناء من كانت بهم حاجة لزيارته من بني جواره. ينقل السواح في سفن في النيل، سفن أكبر من سفن الأساطيل التي أتت قبل غازيةً، بها يقيمون وبها يأكلون وبها يشربون وبها يمرحون، وقيمة رحلاتهم السياحية دفعت مسبقاً بالعملة الصعبة لتبقى في بنوك بلادهم. أما أحفاد هذه المعابد والهياكل فالوضع أشبه بالصور المتحركة أمامهم. كم هو حضيض هذا الرجل الأبيض فالأموال تعود له أسرع مما خرجت منه، ونصف دولار صغير ضريبة لكل تذكرة دخول لتلك المتاحف ستحيل الأقصر أغنى من سويسرا.
في المكتب السياحي الصغير في المدينة أخبرني الموظف بأن الكمبيوتر عطلان، وأن عليّ أن أعود بعد ساعتين، فعدت بعد ساعتين ثم ساعتين، وساعتين أخرى وكل مرة أسمع الإجابة ذاتها: «الكمبيوتر لسه عطلان»، ثم اقترح بثقة الواثق الصادق أن أذهب لأسوان المجاورة لعل الحظ يسعفني وأؤكد حجزي، وهكذا فعلت. «كمبيوتر أسوان موصول بكمبيوتر الأقصر» هكذا أفاد الموظف في مكتب أسوان لتبدأ رحلات مكوكية أخرى على مكتب أسوان لتلقي الإجابة ذاتها وبثقة متزايدة. وخرجت من طوري عندما رفض حراس الفندق دخول مرافقي الصعيدي للمطعم لأن قيافته الأصيلة تعتبر مخجلة في نظرهم في عيون الخواجات، فهذا الإنسان الطيب يحمل جينات من بنوا هذه الحضارة العظيمة التي أتوا من أجلها، هذه حضارته، وهذا صعيده، ويمنعه أبناء جلدته من دخول مطعم لأنه يلبس زيهم، بئس قسمة ضيزا هذه! كم ظالمة هي الحياة فعلاً، من لا يملك يبيع ثروة من يملك ويمنعه حتى من مجالسة من يشتريها. ومن تلك اللحظة المؤلمة لم تفارق ذهني تساؤلات عن سبب الصورة الذهنية المضخمة لدى بعضنا، صورة تفوق بمراحل ما يتصوره الخواجة ذاته عن نفسه. وعلمتني مواقف كثيرة أن الخواجات ذاتهم يتعجبون من مدى إعجابنا بهم.
قبيل المغرب، كما طلب مني، عدت للمكتب السياحي في أسوان، وإذا بموظف جديد سمته الطيب والوقار وأوحت نظاراته بأنه قارئ ومتعلم، شرحت له مأساتي فغشي من الضحك قائلاً: لا الأقصر ولا أسوان لا يوجد بها كمبيوتر!! دهشت وانفعلت، ولكن بغير جدوى لأننا شعوب مندهشة ومنفعلة فطرةً. سألته عن سبب كل هذه المرمطة؟ فقابلني السؤال: هل دسمت له التذكرة؟ فكانت لحظة ذهول واستغراب لأني كنت أدرس في بلاد الخواجات حيث لا وجود لهذه الأساليب. قطع لي التذكرة وذكرني بأن الرحلات مزدحمة وأنني لن أصعد الطائرة في المطار إلا «بتدسيم» التذكرة. توجهت للمطار وسألت أحد الأدلة السياحين عن مقدار الدسم اللازم؟ ورجوته أن يقدم تذكرتي للموظف المسؤول بدلاً عني لأن يديّ لا تقويان هذا الحمل الأخلاقي للدسم. ثم عرفت لما تأخر عشائي في الفندق، وتساءلت، هل يا ترى يرخص الدسم الذمم ويدمر الأمم؟ طبعاً هذا لا ينطبق على كل من يعمل في هذا القطاع، كما اتضح لي ذلك فيما بعد.