د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
امتلأت الأوساط الوطنية الإعلامية الأسبوع الماضي بفقد رجل من جيل الرواد الموسوعيين الذين تشرفوا بحمل فكر حضارتنا الثقافية بمعناها الشامل بحثاً وتأليفاً ونقداً وتوثيقاً، إنه الأديب الموسوعي والمؤرخ العريق الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد رحمه الله وأحسن مثواه وأسكنه فسيح جناته.
لقد كانت للفقيد -رحمه الله - خطوات مضيئة في صناعة التوثيق التاريخي وصياغة محمولاته إلى المنصات الحاضرة في بلادنا، ومن خلال ذلك استطاع -رحمه الله- وباقتدار أن يسهم في منح التاريخ الوطني مسوغات البقاء توثيقاً ورواية، فقد تعامل مع التاريخ بوصفه كائناً مؤثراً يجب ألا يشيخ، فساق برؤيته الثاقبة تاريخنا الوطني في قالب تعيين مثير في مؤلفاته ليحفظ له جاذبيته الحافلة بكل مقوماتها، ورسّخ -رحمه الله- من خلال تلك المنهجية استعداد الأجيال ليكون تاريخ بلادنا ملازماً لأحلامهم الحاضرة، وللفقيد -رحمه الله- أسلوب رصد متفرد فدائماً ما يصنع اليقين بالأحداث والوقائع حيث حمى كثيراً من الحقائق التي كانت تشوبها الروايات المتضاربة، كما أن البحث التاريخي عنده -رحمه الله- يتسم بالوصف ذي الكفاءة الدقيقة، والمعرفة المندمجة ذات اللغة الخاصة، ولا غرو فحافزه -رحمه الله- عمّق الإحساس الوطني بالمكان وحكّامه وموقعه وواقعه، ويبدو بياض الفكر عنده -رحمه الله- من خلال إلمامه العميق بآليات التحقق المعلوماتي ليستجلب ترشحات أنقى وأعذب مشرباً؛ ودائماً ما تضيء معلوماته الغزيرة في مؤلفاته نقاطاً حاسمة نقف لها احتراماً ونردد» قطع أبو إبراهيم قول كل خطيب».
ولن أسهب في الحديث عن منهج الشيخ عبد الرحمن الرويشد البحثي ومساره التوثيقي فقد أحتاجُ إلى مطولات، وقد اطلعتُ على بعض مؤلفاته التي أهداها لي رحمه الله منها: [الستون رجلا خالدو الذكر]، [قصر الحكم في مدينة الرياض]، [إمارات اليمامة من حكم الفوضى حتى قيام الدولة السعودية] وكتاب «تاريخ حصن المصمك» وكذلك كان لي معه -رحمه الله - حوارات ثرية ما زالت عالقة بذاكرتي حينما اصطفيته من شواهدي خلال أبحاثي عن مُعاصِره الأديب عبد الله بن خميس -رحمهما الله-، وكم كان جيلاً سعيداً بعقله وفكره متواشجاً بيقين كبير أن وطننا مختلف يَجِبُ أن يُبَرّ وكان -رحمه الله- شغوفاً بأبحاثي وحريصاً على نجاحها ومشجعاً وداعماً، وكم أذهلني كرم المعرفة ومكارم الأخلاق عند ذلك الرجل الأبي النقي.
ومجمل القول إن التاريخ الوطني كما دوّنه عبد الرحمن الرويشد -رحمه الله- يزخر بتصورات غنية مؤثرة دمج فيها الوقائع بقوة الحكم المتربعة في أعماقنا، وللفقيد مع مفهوم الموسوعية الثقافية نزوع آخر فالشعر عنده -رحمه الله- مبادلة وجدانية داخلية مع عشقه الأزلي لتاريخ وطنه، ومقدرة استعارية لاستحضار الوطن فيما يتغنى به -رحمه الله- من شعره الفوار يقول:
فيا خادم البيت العتيق وحُرمِه
ومسجد طه خيرة الدور موطني
تقبل ورودا نُسقت في تماثل
تحاكي نجوما في السماء المحصن
لسلمان مولاي المليك أسوقها
مزخرفة يزهو بها كل قاطنِ
وللفقيد عبد الرحمن الرويشد إشارات ثقافية تنتمي إلى الأزمنة الجديدة، ففي مطلع الثمانينيات الميلادية أسس -رحمه الله- «مجلة الشبل» وحقق من خلالها انطلاقة التأليف للأطفال بعد أن كانت ساحتهم القرائية شبه خالية، وله -رحمه الله- حكايات جاذبة وطريفة مع وجود تلك المرآة الثقافية الصغيرة المسماة «الشبل» وكان له -رحمه الله- مدخله الصحفي أيضاً من خلال نموذج المقالة التاريخية الأصيلة التي احتاجت منه -رحمه الله- مروراً وحضوراً في أزمنة مختلفة وصحف مختلفة أيضاً، وكثيرة هي مشاعل الفقيد الثقافية التي يمكن إدراكها من خلال مسارات عديدة امتلأت بها كشواهد ومشاهدات كتب الباحثين في العهد الحاضر، واحتفى بها الناقلون، رحم الله الشيخ المؤرخ عبد الرحمن الرويشد فقد كان «حديثاً حسناً لمن وعى».