د. سلطان سعد القحطاني
تناولت في العرض السابق مقدمة عن النقد الثقافي وما تناوله بعض الدارسين في المشهد الثقافي العربي، وكان بعضهم ينقل من دراسات سابقة ما كان يراه في هذا المجال، سواء اتفق والمشهد العربي أو ما تُرجم على علاته، وفي هذا المقال سنتناول الصورة المزدوجة في نقدنا العربي الحديث، فقد تناول النقاد والدارسون بعض الأقوال حول ما يُسمى النقد الثقافي، وفسّر كل منهم النص من وجهة نظره حسب معطيات اللغة في بنيتيها (الظاهرية والباطنية) DeeP STRUCTURE and Surface Stucture ومن هاتين الصورتين المتناقضتين حيناً المتقاربتين حيناً آخر، دأب النقاد في تحليل النصوص كل على ما بدا له وما خطط لأن يقوله، وكان للدارسين الذين يرون أن الشعر العربي، وهو ديوان العرب، كما هو متفق عليه رأي لا يختلف عليه اثنان من أصحاب الرأي والعقل والعلم، وهاتان الصورتان - الظاهرية والباطنية - كانتا شغل النقاد الذين خرجوا بها، وكانت من علم اللغة العام، لكنها عمدة في الدراسات النقدية الحديثة، وهي موجودة في التراث بعين الباحث البصير، ويغنينا مثال واحد من قصيدة الحطيئة في هجاء الزبرقان بن بدر، واحتج الأخير عليه، والنص قابل لتطبيق النظرية عليه من وجهين للتخلص، لكن ظروف الشاعر مع خصوم الزبرقان جعلته يعترف بأنه هجاه ولم يمدحه بعد حكم حسان بن ثابت (رضي الله عنه) عليه بالهجاء، ولا مجال للتخلص من هذا الحكم، فلو أنه قلب القافية إلى مرفوع لكانت مدحاً بمجرد استعمال فونيم (Phoneme) واحد، فالطاعمُ بضم الميم بمعنى المطعم، والطاعمَ، بفتح الميم، بمعنى المطعوم، فتلك فاعل وهذه مفعول به. وظهرت نظرية حول هذا الموضوع في النقد الحديث، واعتبر بعض الدارسين هذه النظرية فتحاً مبيناً في عالم النقد الثقافي الذي لم يثبت نسبه في الأسرة الأدبية الثقافية إلى الآن، كما لم يثبت نسب الأدب الإسلامي وعزله عن الأدب العربي ونقده، فهي مجرد نصوص وعظية هزيلة، رحل على ظهرها مجموعة من المرتزقة ثم انبتت بهم في مهامه الصحراء (4) ولم يعد له وجود خارج المنظومة الأدبية النقدية. والواقع أنها موجودة في النقد الأدبي الحقيقي كما ذكرنا قبل قليل، لأنها تدرس نصاً مكتوباً، وليس وجهة نظر. يقول أحد المنظرين لهذا النوع الهجين: للشعر صورتان لدى النقاد، وهاتان الصورتان متناقضتان، الأولى تعلي الشعر والشاعر، والثانية تزهد فيه وتقلل من شأنهما. وظل الشعر بين هاتين الصورتين. العزيز / الحقير (5)وبما أن هاتين الصورتين متلازمتان على شكلٍ ثنائي في الوقت نفسه، فإن ذلك يدل على وجود فرصة للمبدع (الشاعر) لأن يكيف النص حسب الموقف، سلباً أو إيجاباً. والأدب - بطبيعة الحال - هو ابن عصره في كل المجالات والظروف، فالشعر في العصر الجاهلي، وما قبل الإسلام له أنماط فيها كثير من الحرية المتمثلة في وجود عناصر تقوم على المنحى القبلي قبل كل شيء، وهذه صورة يجب على الباحث أن يأخذها بعين الاعتبار، وهي لم تنته إلى وقتنا الحاضر، وتطورت مع وجود الإعلام التجاري الآن، حيث يكون المركز ثقافة العصر، واللغة مخزونة داخل القبيلة وفيها مجال للانزياح عن الآخر وإليه، من جهة، وفيها مرجعية ثقافية من جهة أخرى. وما وجود القيمة الإسلامية للإنسان إلا رادع لكثير من التفضيل على الآخر، وذلك متمثل في قول الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(6) والكرم هنا ليس ممثلاً في الأصول أو المال أو أمر من أمور الدنيا - وهذه محمودة ولا شك في ذلك - لكن قبل ذلك كله طاعة الله فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، ويؤكد ذلك قول الشاعر أبي العتاهية:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
ويؤكد بعض الباحثين في النقد الثقافي على ظاهر النص - بقصد أو بعدم معرفة - ولا أشكك في علمهم، لكنهم يلوون أعناق الجمل لصالح أمر معين، وهذا ليس من أصول البحث العلمي، فيستشهدون بالحديث الشريف المؤكد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يرديه خير من أن يمتلئ شعراً» (7) وهذا المعنى قد اختلف فيه عند الباحثين القدامى، وهم بلا شك محل الثقة، فقيل إن المقصود به الشعر الذي هُجي به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من توسع في ذلك وأخذ النص على الوجهين الذين ذكرناهما، وهما ما ينطبق على القاعدة الفقهية التي تقول: حلاله حلال وحرامه حرام. فالشعر إن كان ضد الدعوة الإسلامية، أو فيه من المجون وذكر عيوب الآخرين وكشف أسرارهم والفحش على المحارم، فهذا لا يرضاه ذو عقل سليم، وأما إن كان الشعر في حد ذاته خالياً مما ذكرنا فهو ديوان الأمة العربية، ولا يجب علينا أن نلوي أعناق الجُمل لنؤكد ما ننوي الذهاب إليه، ونقلب الميزان ضد الحقائق العلمية، وسيأتي من بعدنا من الباحثين من يفند هذه المزاعم ويرد الحق إلى نصابه حسب قواعد البحث العلمي الرصين. وهناك موقفان مختلفان للشعر في عصرين مختلفين: الأول ثقافة العصر الجاهلي التي لم تقف ضد الشعر، بل هو لسانها، ومنه امتدت الثقافة العربية بمفرداتها (اللغوية والتراثية، والأنساب) وغيرها.
الثاني: ثقافة عصر الإسلام التي وقفت ضد بعض الشعر، ولم تنهه، ونلاحظ ذلك عند كثير من الشعراء المخضرمين، بل إن بعضاً منهم توقف عن الشعر تماماً، كلبيد بن ربيعة، وغيره، ومن بقي تغير أسلوب حياته الشعري، كحسان بن ثابت وكعب بن زهير، تأدُّباً مع تعاليم الإسلام، حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما طلب من الشعراء أن يردوا على أبي سفيان بن الحارث الذي هجاه، بالرغم من أنه أخوه من الرضاعة (8)، فنظموا ردوداً لم تشف غليله - صلى الله عليه وسلم - استدعى حسان بن ثابت الذي قال: والذي بعثك بالحق لأسلنّك منهم سلّ الشعرة من العجين، فنظم قصيدته الهمزية التي أفحم بها أبا سفيان وألجمه حجراً، وعندما قال حسان بيته المشهور:
وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
يُقال إن أبا سفيان قال: لعنك الله من أعمى، من أين آتي بروح القدس، لكل شيء لي عليه طاقة إلا هذا، والمعني في ذلك جبريل عليه السلام، ومنها:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأسنة مترفات
على أكتافها الأسل الظماء
حتى قال:
ألا أبلغ أبا سفيان عني
فأنت مجوف نخب هواء
هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
وهي قصيدة مؤثرة من أقوى الشعر، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اهجهم فإنه عليهم (أي قريش) أشد من الرشق بالنبال، وهذا دليل على أن الشعر لم يحرَّم في الإسلام، بل إن الشعر الصادق غير المتعارض مع التعاليم الدينية مطلوب، كشعر حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير، وغيرهم كثير من شعراء نذروا أنفسهم للدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معتمدين في ذلك على قول الله تعالى في سورة (الشعراء) التي نفى الله تعالى صفة الشاعرية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن الذي نزل هو قول الله جل جلاله، وليس قول بشر، وبدأ التحدي إن كان قول بشر فأتوا بسورة من مثله؟؟، والتحدي في القرآن الكريم كثير في هذا المجال، وهو نقد وتقويم في آن واحد للضالين الذين شككوا ووقفوا موقف المجادل بلا هدف إلا الرفض. قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.. {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.. فإذا أخذنا موضوعنا النقد الثقافي المنبثق من الثقافة السائدة في وقتها، فسنجد صورةً معبرة عن حال تلك الفئة من الشعراء وهم يمثلون الثقافة السائدة في عصرهم، حيث يصفهم تعالى بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.. والجزء الأول من الآيات، يخاطب الذين هجوا الرسول والدعوة من شعراء قريش الذين أشرنا إلى رد حسان بن ثابت عليهم، رضي الله عنه بأمر من الرسول، وهم: النضر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحي، وعبد الله بن الزبعرى، وأمية بن أبي الصلت، وأبو سفيان بن الحارث الذي مر ذكره معنا، وأم جميل العوراء بنت حرب زوج أبي لهب، التي لقبها القرآن الكريم بـ (حمالة الحطب)، ومن شعرها هذه الأرجوزة: (مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا).
وبعد هذه الإطلالة السريعة المختصرة لمن أخذ النص من منتصفه وترك ما سواه ليدلل على مقصده، ولم يلتفت إلى باقي النص، بعلم أو بدونه، كمن يقول: ولا تقربوا الصلاة.....، ثم يقطع النص من منتصفه قبل إكمال الأمر، والقيح الذي ورد في الحديث يُعنى به الشعراء الذين هجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذه صورة الخصوص وليست صورة العموم للنص، والدليل على ذلك ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكافحة الشعراء الطغاة، من شعراء مؤمنين، والإسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ولم ينه الأخلاق عامة بعد العصر الجاهلي، بل أبقى على الصالح منها، فلم يقض على الكرم والشجاعة والمروءة وحسن الجوار ولهفة المظلوم، لكن قضى على المضرات، كالقمار والخمر والربا والوأد عند بعض القبائل ونكاح زوجات الأب بعد موته، وقنن الحياة الاجتماعية والمواريث، كتوريث البنت، وتحديد عدد الزوجات، وغير ذلك من الأمور الدنيوية والأخروية، فكيف لنا أن نجتزئ النص ونكتفي بأوله قبل أن ننهي الآية بأداة الاستثناء: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.. إذن الشعر آلة حلالها حلال وحرامها حرام، كأي آلة في المصطلحات الفقهية.
هذه إطلالة سريعة على النقد الثقافي الذي مصدره ثقافة العصر الذي يمر فيه الشعر كنوع من الفنون القولية، من ناحية البنية الظاهرية، من مصطلحات ومسميات ثقافية تعارف المجتمع عليها، مع الاحتفاظ بالبنية الداخلية، فيما يتعلق باللغة وبنائها وقواعدها العامة المرتبطة بكلام العرب، وعلى رأسها بنيات القرآن الكريم ومفرداته الباقية للتداول اليومي.
ولنا لقاء مع التحولات من الفصيح إلى الشعبي، وما تعرض له بعض النقاد في مجال النقد الثقافي في الحقب المتأخرة في الثقافة النقدية.