محمد جبر الحربي
ها قد انتصروا أخيراً، وأرغموني على الذهاب إلى قسم الطوارئ، بعد محاولات جادة مني للتملُّص، فأنا لا أحبُّ المستشقيات، ولا رائحتَها المنبعثة من كثرة المطهِّرات، ولا تلفت انتباهي نباتُاتها ولا ورودُها التي تُباع، وتُهدى، وتُزيِّن الممرات. فهي رغم صحتها ونضارتها، إلا أنها لا توحي إليَّ بالصِّحةِ بل بالمرض، والمرضى.
لم تكن علاقتي جيدة بالمستشفيات فقد دخلتها مبكراً في طفولتي وأنا ابن سنوات أربع أو خمس حين توطأت أختي ظهريَ وهي تلعب، فكُسِر، وظللت حبيس الجبس والمستشفى العسكري مدةَ عامٍ كاملٍ، ونجوت، ثم عدت إليه لإزالة « اللوز» وأنا في السابعة.
وقد عدت إليه زائراً ومرافقاً لأختي عائشة، وأنا في العاشرة، بعد أن أجرت عملية عظام صعبة، وكانت العمليات حينها معقدة، تأخذ أشهراً، والإمكانات الطبية بسيطة ومتواضعة.
وبذلك كان لي مع المشافي والخوف والبياض والموت مِنْ بعدُ قصة طويلةً، وسيرة، حيث فقدت أخي وأختي وابنتها تباعاً، وكنت فقدت أمي ولي من العمر سنتان، فلم أعرفها، ولم يتبق لي منها سوى وشمٍ في ساعديَ الأيمنِ، إثرَ تطاير قطرات من الزيت وأنا في حضنها، كما روى لي أبي:
«حين عرفتُ الوقتَ عرفتُ سُليمى وبكيتُ بكيتُ
قال أبي: الوشُمُ بساعدِهِ الأيمنِ..
- مِنْ أمِّي..!
والأيسرُ؟!
قال أبي.. أكثرَ في القولِ
وكانت نائمةً
فعلامَ النَّوْمُ... صحوْتُ.
لوْ وَهَبَتْ روحيَ بعضَ ملامِحِها
لوْ تَرَكَتْ كُحْلاً للعينِ
مداداً للقلبِ
أريجاً في الثَّوبِ
ولوْ تَرَكَتْ شيئاً غيرَ الاسمِ
وغيرَ الوشْمِ
وغيرَ السَّنتيْنْ.».
وهكذا كان الموتُ رفيقاً بعيداً، لكنه عادَ واقتربَ فدوَّنتُ سيرتَهُ الأولى هنا:
« وبالأمسِ مِتُّ
وأذكرُ أنِّي خلالَ الحياةِ الَّتي عِشْتُ مِتُّ
وقدْ كنتُ مَيْتاً قُبَيلَ الحَياةِ
وعندَ بُلوغِ الفِطَامِ
تَوطَّأَ طفلٌ تُسابِقُ ضِحْكتُهُ الرِّيحَ ظَهْرِي
وقَالوا بأنَّيَ كِدْتُ
وَطِفلاً ركضْتُ
تَسَاقَطَتِ العُمُدُ الخَشبيَّةُ بينَ يَديَّ
وقالَ ليَ العَاملُ اليَمَنيُّ: «لكَ الله» مِنْ وَلدٍ
فَنَفَضْتُ التُّرابَ وقُمْتُ
وهَا أنا ذا في الثَّلاثينَ أفْقُدُ غُصْناً فَغُصْناً من الشَّجَرِ العَائليِّ
فإنْ مِتُّ.. مِتُّ.»
وهذه حقيقة، فقد كنت أمشي بجوارِ بنايةٍ في شارعٍ في حيِّ الضُّبَّاط في الرياض، وأنا في المرحلة المتوسطة، ولم ألتفت إلى العمَّال أعلاها، ولم يلتفتوا إليَّ حين كانوا يُلقون الدعائمَ الخشبيةَ من أعلاها، وهي تقعُ أمامي وخلفي، وعن يميني ويساري.. فسقطتُ، وتحسَّستُ جسمي، وكتبَ الله لي أمام دهشة العمال والعيون التي ترقبني أنْ نجوتُ، فنفضتُ الغبار وقمتُ راكضاً باتجاه البقالة في زاوية الشارع، حيث الأصدقاء الصغار من مدارس الأبناء، وزجاجةُ البيبسي الشهيِّةُ..!
ومن المفارقات العجيبة أنني ابتعثت لدراسة الطب في بريطانيا، ولكنني فطنتُ إلى أنه لا قدرةَ احتمالٍ لديَّ على رؤية الدَّمِ، والجراحِ والألم، فانسحبتُ مبكراً من بياضِ الأرديةِ والأسرَّةِ، إلى بياض الورقِ والقلبِ وفضاءات الشعر والكتابة.
مرَّ بي كلُّ ذلكَ، وأنا أحاول التماسك بين تعرُّقي ورعشتي، وبين اهتزازت السيارة وهي تعبر شوارع الرياض الفسيحة المكتظة، والجديدة المهترئة، بفعل الحفريات المتتالية، والمنتشرة هنا وهناك.
طلبوا لي كرسيّاً متحرِّكاً، ولم أستطع منع ابتسامةٍ لفكرةٍ كانت تخامرني دائماً، كلما رأيتُ مسلسلاً خليجياً ووجدته أمامي، فكنت أقول إنَّ هذا البطلَ - وأعني الكرسي- حاضرٌ في كلِّ المسلسلات الخليجية، بسبب المفهوم القاصر للدراما، لدى كتَّاب الخليج ومخرجيها بشكلٍ عام، فلا بد من كرسيٍّ متحركٍ لتنجحَ الدراما.. فيا لضعفِ خيالِهم!
ويا لضعفي الشديد، وأنا أنتظر على السرير الأبيض نتائج الأشعة والفحوص، وإجابةَ الأطباءِ على ما يحصلُ لي، وعلاجاً.. أيَّ علاجٍ يخرجني من بابِ التعبِ الذي دخلته دون علمٍ، وكانت الساعات طويلةً ثقيلةً من العاشرةِ حتى عصر ذلك اليوم، وهم يطلبون مني الصبر، ويمنعون عني الدواء حتى ظهور نتائج الأشعة. وقد ميزت منهم، وهم كثر، طبيبةً سعوديةً قمَّةً في الخلقِ والأدب والمعاملة، كان لحديثها المصحوب بالدعاء، وطمأنتها، واعتذاراتها المتكررة، مفعولُ الدواءِ الذي تأخَّرَ كثيراً.