إذا كانت الحرب لا يمكنها أن تمنع التطور، فما الذي يدعو الرأسمال الى خوض الحروب العالمية التي قد تؤدّي الى تقويضه؟
لم تكن الحروب الرأسمالية وحيدة الهدف، ولكنها نشبت كلها بسبب المآزق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الرأسمالية.
الحرب الأولى نشبت بعد تفاقم الأزمة الرأسمالية منذ كمونة باريس (منتصف مارس 1871) حتى بداية القرن العشرين، وقد كان النظام الرأسمالي في بداية عنفوانه، وحاول إجهاض الثورة الناشئة بشتى الوسائل والوعود الكاذبة، واكتشف انه لا يستطيع إيقاف الزخم الجماهيري، الذي أفقد البرجوازية زمام المبادرة في روسيا بعد ثورة (1905).
بالرغم من عنفوان الرأسمال الصاعد في ذلك الوقت، إلا أنه أُصيبَ بالهلع من تعاظم الثورة العمالية في روسيا، التي -لو نجحت- ستسري عدواها في أوروبا كلها كالنار في الهشيم وتتحرر القارّة العتيقة من قبضته.
تَبدّى نجاح الثورة العمالية في روسيا منذ الإطاحة الشكلية بالقيصر وتسليم السلطة رسمياً للبرجوازية المحلية في (1905)، حيث لم تستطع تلك السلطة بقواتها المسلحة مجابهة الزخم العمالي-الجماهيري الحاصل، وكانت عيون وآمال الجماهير الشعبية في أوروبا تتطلّع لما يحدث في روسيا.
وعى الرأسمال الخطورة التي تهدّد كيانه، ألا وهي اللصوصيّة في توزيع الناتج الإجمالي من الثروة، التي لا يمكنه الاستمرار بدونها، فعَمَدَ الى الحرب الاستعمارية التي تسمى الحرب العالمية الأولى.
كان الهدف الذي روّج له النظام الرأسمالي للحرب هو إشاعة المدنية والحضارة، أما الأهداف غير المعلنة هي:
أولاً: توجيه الوعي الجماهيري المتنامي نحو وقائع ليس لها علاقة بالثورة، ورفع من أجل ذلك شعارات قومية تجعل الأوروبي متسيداً على شعوب المستعمرات.
ثانياً: عزل ما يجري في روسيا عن بقية أوروبا.
ثالثاً: إيجاد دخل إضافي من دماء الشعوب المتخلفة للجائع الأوروبي بدل توزيع الناتج الاجتماعي بعدالة أكبر وخسارة جزء من امتيازاته.
رابعاً: الإيحاء للمُنتِجْ الأوروبي بأن الاستعمار يكسبه مالاً إضافياً جرّاء هدفه السامي في نشر تجربته الحضارية، أي أنه روّج للصوصية مقنّعة بين الشعوب.
بيد أن الأمر لم يجر بما يشتهي اللصوص، حيث أدّى الاستعمار الى عولمة الظلم والثورة، ولم ينجح الرأسمال حتى في إيقاف الزخم الجماهيري الأوروبي. لقد نجح ذلك الزخم في الإطاحة بالبرجوازية في روسيا في (1917)، أي قبل نهاية الحرب بعام واحد.
بالرغم من أن الحرب العالمية الأولى استطاعت تأجيل سقوط النظام الرأسمالي وتشتيت العملية الثورية في أوروبا بتصديرها للخارج، ولكنها أخفقت في إيقاف النمو الثوري في الدول الصناعية، وبالإضافة الى ذلك فجرت حركة تحرر وطني على امتداد الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
- د. عادل العلي