ياسر صالح البهيجان
إشكالات المخرجات التعليميّة لا تكف عن طرح أسئلة معقّدة حول آليّات تلقي المعرفة في مؤسسات التعليم بشقيها العام والعالي، وتفرض في الآن ذاته ضرورة إعادة تقييم مدى نجاعة الأساليب التعليمية التقليديّة المتأسسة على طرق التلقين المقيّد لحدود الدارسين العقليّة في ظل غياب النزعة التربوية والتوجيه الأكاديمي لما يُعرف بأنماط التعليم الذاتي المحفّزة لاكتساب المعارف بوساطة التقنيات التكنولوجية الحديثة.
دمج أنماط التعليم القائمة بأساليب التعلم الذاتي الحديثة ضرورة يفرضها واقع العصر المتغيّر والمتعولم، إن أرادت المؤسسات التعليمية تحسين جودة مخرجاتها، وتنمية مهارات الدارسين الذاتية، ليتحولوا إلى قوّة بشريّة عاملة ومنتجة وفاعلة تحقق الاكتفاء الذاتي داخل حدود وطنها، وتسهم في بنائه وتنميته عمرانيًا وسلوكيًا وفكريًا وأخلاقيًا.
المجتمعات المتحضرة والحديثة انتقلت مؤخرًا إلى تأسيس ما يُعرف بـ»المدرسة الإلكترونية»، والتي تؤمن بضرورة التخلي عن أسلوب التلقين في التعليم، وتتيح للدراسين فيها إمكانية الاتجاه نحو الوسائط التكنولوجيّة لتلقي المعرفة بطرق مبتكرة ومنسجمة مع المتغيرات الراهنة، فضلا عن دمجها لوسائل التواصل الاجتماعي في نظم التعليم لتمنح الدراسة حيوية وديناميكية تفتقدها المدارس الكلاسيكية ذات التعليم القائم على المناهج المحددة سلفًا والتي تسهم في الحد من تفاعل الدارسين، وتفقدهم مهارة البحث عن المعلومة عبر وسائل متعددة تتيحها التقنيات الحديثة.
والتعليم الذاتي أخذ يتبلور بطرق حديثة في ظل تنامي استخدام شبكة الإنترنت والوسائط الرقميّة المرئية والمسموعة، وباتت كبرى المؤسسات التعليمية في العالم المتقدم تفرض على الدارسين الاتجاه نحو التعلم عبر تلك التقنيات لإتمام متطلباتهم الدراسيّة، بهدف تحفيزهم على مواصلة التعلم بعد الانتقال إلى ميدان العمل، لإيمانها بأن التعليم لا يقف عند حد الحصول على الدرجة العلميّة، وإنما هي حالة ثقافية ومعرفية تمتد على مراحل عمر الإنسان كافّة، خصوصًا وأن العلوم الحديثة ذات طابع متطوّر، وأصبحت تشهد قفزات هائلة تماشيًا مع تسارع العصر وإفرازاته الفكرية الرافضة للجمود.
تنمية مهارات التعلّم الذاتي تصنع مجتمعًا حضاريًا واعيًا وناقدًا، وتربط الإنسان المعاصر بالتحولات الفكرية والمعرفيّة التي أنتجها عصره، وتؤهله للمساهمة في تطوّر التاريخ البشري، ليتحوّل عقله من عقل راكد مستهلك إلى عقل منتج وفاعل، وهذه الخصائص باتت ضروريّة لدى الإنسان العربي إن أراد أن يستعيد دوره الريادي في الابتكار والتأليف والاختراع، ويتجاوز أزمة الجمود التي عطّلت القدرات، وأوجدت بيئة طاردة تسهم في هجرة العقول المفكرة والمبدعة نحو المجتمعات المتقدمة التي توفّر الأرضية الصالحة لاحتضان الأفكار الخلاقة وغير التقليدية.
علماء ومخترعون ومبتكرون كثر لم يحظوا بتعليم مدرسي رسمي إلا أنهم أحدثوا نقلة نوعيّة في حياة البشريّة كمخترع الكهرباء توماس أديسون، الذي حكمت عليه المؤسسات التعليميّة بضعف قدراته العقليّة، إلا أنه خرج من عباءة تلك الاتهامات وخاض تجربة رائدة في مجال التعلّم الذاتي المبنيّ على التطوّر من خلال التجارب الشخصيّة، واستطاع أخيرًا أن يجعل من اسمه رمزًا للابتكار في العالم، ولا تزال تصنفه العديد من الدوائر العلميّة كأعظم مخترع في التاريخ البشري.