د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا في هذه الجريدة الغراء أن الأوربيين يعتبرون الإسلام تهديدا أكثر من أي وقت مضى؛ وكنا قد استشهدنا ذات مرة ببحث للمفكر الكبير يورغن هابرماس، الذي يمثل بحق الانتلجنسيا الأوربية الحالية النقدية التي مازالت ترفع أصبع الاتهام ضد الشر والبؤس، حيث حاول إعطاء جواب مقنع لهاته التساؤلات بعيدا عن القراءات السطحية والمغرضة التي تصدر في بعض الأحيان عن مفكرين أوربيين ذوي قناعات حزبية وسياسية تؤثر في الأخير على فهم الأمور بل وعلى مجرى الأحداث، لأن السياسيين غالبا ما يعتمدون على تحاليلهم ودراساتهم لتكون لهم عونا ونصيرا في تعليل سياساتهم المتعلقة بالأجانب.
أشار المفكر الألماني إلى أن العامل الانتخابي وضرورة حشد عدد أكبر من أصوات الناخبين هو السبب الذي جعل الجسم المجتمعي الألماني مثلا مريضا بالصور النمطية عن الإسلام والمسلمين، وهو الذي يغذي في عقول الألمان مقولة وجود الهوية والثقافة الوطنية في خطر أو ما يشار إليه بالهوية المرجعية، وهاته الهوية يشعل فتيلها سياسيو الأحزاب كلما دعت الضرورة إلى ذلك على قبيل ما وقع في تسعينات القرن الماضي عندما زحف آلاف المهاجرين من يوغوسلافيا السابقة وطلبوا اللجوء السياسي في البلد، مما أثار زوبعة من الاحتجاجات السياسية؛ ولكن خلافا لما وقع في تلك الفترة، فإن السياسيين الألمان أضافوا خاصية جديدة في دفاعهم عن الهوية والمرجعية الوطنية، وهو كون ثقافة المجتمع الألماني ثقافة»يهودية - مسيحية»، ويتساءل المفكر الألماني عن نسيان السياسيين الجدد لما وقع لليهود في ألمانيا!
لا يمكن تجاهل التراكمات التاريخية المغذية للمشاعر الوطنية والتي تتجاوز حدود ألمانيا لتشمل جل الدول الأوربية، ولكن الذي بدأ يقع اليوم هو وصول صفوة من الحكام إلى كراسي أخذ القرار دون أن يكون لهم باع في السياسة أو تجربة تاريخية تجعلهم يفرقون بين الدعايات الحزبية السياسوية وما يجب أخذه من قرار للمحافظة على توازن المجتمع داخل الدولة؛
وبهذا الشكل نرى ظاهرتين اثنتين تغطيان معظم الأحداث الحالية في أوروبا وهما موضوع الهجرة الذي أصبح لصيقا بالإرهاب كما تصوره كل وسائل الإعلام، ووصول اليمين أو اليمين المتشدد إلى بعض كراسي الحكم في أوروبا... فقد سقط تباعا كما كتب الزميل عبدالله بوصوف مؤخرا كل من دافيد كامرون، بعد نتائج عكسية لاستفتاء من اقتراحه هو، لخروج أو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو 2016، وسقط الإيطالي ماتيو رينزي أيضا بعد نتائج عكسية لاستفتاء من اقتراحه هو لتعديل دستوري للفصل الخامس وإلغاء الغرفة الثانية (مجلس الشيوخ الإيطالي) يوم 4 ديسمبر 2016 …! وسيُغادر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد نهاية ولايته الرئاسية. وبالطريقة نفسها سيُغـادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما البيت الأبيض بعـد نهاية ولايتيْه الرئاسيتيْن. في المقابل ارتفعت أسْهم اليمين في بريطانيا التي تنتظر قرار المحكمة في نهاية يناير 2017 بخصوص إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأيضا كل مؤشرات التنافس الرئاسي بفرنسا لسنة 2017 تذهب في اتجاه انحصاره بين اليمين واليمين المتطرف!
أما في ألمانيا فاستغلت أحزاب اليمين والحركات الاحتجاجية، كبيغيدا مثلا، سياسة المستشارة أنجيلا ميركل المنفتحة على الهجرة واللجوء واعتبارها قيمة مضافة لألمانيا. وركبت هذه التيارات على الأحداث الإرهابية بكل من باريس وبروكسيل ونيس، وأخيرا حادث دهس شاحنة لسوق ببرلين يوم 19 ديسمبر 2016، مخلفا 12 قتيلا و48 جريحا. لتنادي أحزاب اليمين المتطرف بتحصين ألمانيا من المهاجرين ومن الإسلام خصوصا. وضعٌ سياسي وانتخابي جعل من إعادة الثقة في السيدة ميركل للتقدم للانتخابات التشريعية للمرة الرابعة ضمانة لمواجهة تمدُد اليمين ولوضع حد لمفاجآت اليمين، وخاصة حزب البديل من أجل ألمانيا خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2017 ...
يطرح مشكل استقرار المسلمين بشكل دائم في المجتمع الأوربي تساؤلات لا متناهية وحوارات عقيمة عن مدى قابلية تعايش الإسلام مع الديمقراطيات الأوربية، ولكن الداهية العظمى والمصيبة الآزفة هي تلكم الصور النمطية التي تترسخ في الأذهان والسلوكات الغربية موازاة مع العمليات الإرهابية التي اقترفت سواء من أبناء الجيل الثالث أو من الوافدين المهاجرين الجدد، لتحمل كل الأحزاب في مشاريعها الانتخابية قواعد أصبحت يوما بعد يوم ثابتة من قبيل كره الأجانب وبالأخص المسلمين منهم، وضرورة تحصين المجتمعات من تواجدهم.