هاني سالم مسهور
طرحت ثورات الربيع العربي إشكاليات مختلفة، من أبرزها مدى قدرة الدول التي شهدت ما يمكن وصفه بانتفاضات شعبية، على التحول من مرحلة الأنظمة الشمولية، إلى مرحلة يمكننا أن نصفها بـ (الرخوة)، خاصة مع ضعف الجيوش الوطنية، وتشعب الصراعات الداخلية من أجل الاستحواذ على السلطة، ولاسيما مع بروز الميليشيات المسلحة كجزء رئيس من تفاعلات الشرق الأوسط، وما يرتبط بذلك من تحديات عدة تتعلق بإمكانية تحقيق تطلعات الشعوب، بعد ثورات الربيع العربي.
إنّ الدول في الفترة التي أعقبت ثورات الربيع العربي، شهدت مرحلة تتسم بالديناميكية الشديدة، والتحولات المتسارعة، ما ترتب عليه ظهور تحديات عدة، كان من أبرزها أمران غاية في الخطورة، هما: الاستقطاب السياسي، وإمكانية الدخول في حرب أهلية، وذلك في ظل ضعف أو سقوط الجيوش الوطنية، وتدهور الأوضاع الأمنية بشكل كبير، تظهر دول تونس واليمن وليبيا كأنموذج يؤكد المسألتين معاً (الاستقطاب السياسي ومخاوف الحرب الأهلية).
أبرز التحديات في اليمن بعد الثورة الشبابية هي ملف الأمن وإصلاح الجيش، إضافة لتفاقم أزمة التمرد الحوثي في الشمال، وكذلك قضية جنوب اليمن وتشابكاتها التاريخية، علاوة على بروز تنظيمي القاعدة و»داعش» في البلاد. أما في ليبيا، فإنّ أبرز التحديات يتمثل في التدهور الأمني، وانتشار الميليشيات المسلحة بشكل كبير، والتناحر على السلطة في ظل حكومتين وبرلمانين، ووجود عدد كبير من اللاجئين والنازحين. في حين تأتي التحديات أقل في تونس في ظل بروز التهميش والاستقطاب، ولكن يوجد استقرار سياسي أفضل نسبياً.
يعتبر الاستقطاب الآفة الكبرى التي تصدّرت مشهد ما بعد ثورات الربيع العربي، والذي عُدّ أحد تداعيات الأنظمة السلطوية الشمولية التي قامت عليها الثورة. حيث إنّ كل نظام ترك خلفه مظالم شعبية واسعة، ما جعل شرائح مجتمعية في مواجهة الأخرى، وولّد حالة من الصراع المسلح، خاصة في ظل وجود فئات مجتمعية كانت مستفيدة بالأساس من استمرار وبقاء الأنظمة القمعية في مواجهة طموحات شعبية، لفئات مجتمعية أخرى ترفض ذلك في ظل معاناة طويلة لسنوات عدة قبل الثورات.
تعميق الانقسام المجتمعي مرتبط بعدم وجود مشاركة سياسية فعّالة قبل الثورة، حيث كانت القرارات تؤخذ من أعلى إلى أسفل، في ظل غياب المشاركة العامة. ولذا، فإنّ هؤلاء المواطنين لم يكونوا أبداً جزءاً من العقد الاجتماعي ، وإنه إذا ما عُدّت تلك الحسابات التاريخية جزءاً من الاستقطاب الحادث، فإنّ الربيع العربي بلا شك قد شكّل سبباً مهماً لبروز هذا الاستقطاب، حيث إنه خلّف مجتمعات منقسمة، وهو ما قلل من فرصتها نحو التحول الناجح. لذلك فإنّ ضرورة أن يكون هناك قانون لمحاسبة المخطئين، من أجل العبور نحو مستقبل أفضل في دول الربيع العربي، حيث إنه في اليمن يبرز عدم وجود قانون للعدالة الانتقالية، وأنه لا توجد مساءلة أو محاسبة، كذلك لا توجد قوانين لإدارة عملية التحول، أما في ليبيا فهناك مبالغة فيما يتعلق بالمحاسبة أو المساءلة للحد الذي يمكن عدّه انتقاماً، وهو ما حدث مع الرئيس الأسبق معمر القذافي، ومحاكمة سيف الإسلام القذافي، وكان هناك قانون للعزل السياسي، واستبعاد بموجب القانون. في حين نجد أنّ تونس صاغت قانوناً للعدالة الانتقالية لم يغفل فكرة المساءلة، وكذلك كان هناك قانون لحماية ثورة الياسمين، وكان أي عزل سياسي يتم عن طريق قانون العدالة الانتقالية.
من المهم للغاية في أي مصالحة مستقبلية تحقيق الأمن، خاصة في ليبيا واليمن، حيث إنّ تشابكات الثوار الليبيين بعد إسقاط القذافي، أدى إلى وجود دولتين موازيتين، إحداهما الرسمية والأخرى الثورية. كذلك فإنّ العدالة الانتقالية أمر ضروري، وذلك من خلال إنشاء «لجان الحقيقة»، يكون هدفها الأساسي الكشف عن حقيقة ما حدث خلال سنوات ما قبل الثورة من فساد وانتهاكات، وكذلك بعد الثورة، مع أهمية إجراء محاكمات عادلة ضمن إطار القانون. حيث إنّ غياب ذلك يؤدي إلى زعزعة الثقة في الدولة والقانون، مثلما هو الحال في ليبيا، في ظل انتشار العشوائية، والارتجالية، والانتقام. والأمر الآخر المهم هو التعويض، بشقيه المادي والمعنوي، من خلال توفير فرص لتعويض الضحايا وعائلاتهم.