سعود عبدالعزيز الجنيدل
صدقوني هي ليست ككل الأمهات، صدقوني هي أمّة لوحدها. الأدوار الاعتيادية التي تقوم بها الأمهات والتي جعلت الدين يكفل لها ثلاثة حقوق ليست السبب لوحدها في جعلها أمّة.
لا يسعني إلا أن أقف إجلالاً واحتراماً وأن أخلع لها القبعة، ولو أن السجود جائز لها لكنت أول الساجدين.
هذه المرأة أمّة لوحدها، أمّة بأدوارها البطولية التي لا يستطيع أحد غيرها القيام بها، ولن أبالغ في نتيجتي إن قلت هذا.
وقد أغدقت علينا من عطفها وحنانها المتدفق الذي أغرقنا وجعلنا نشرب منه، ونرتوي من دون حد أو قيد. هذه الرائعة لا ترى نفسها شيئاً ولا يهمها أمرها أبداً أمام اهتمامها بنا، وسأروي لكم بعض مواقفها..
من ذلك أنها كانت تعاني من احتكاك في الركبة، وأولو الشأن قرروا إجراء عملية لها، فاتصلوا بعد فترة وقالوا هل تريدين القيام بها، طبعاً ومن دون تردد رفضت لأن البيت لا يستغني عنها أبداً، ولأن حفيدها الغالي «عبدالله» قد وصل.
وإحدى المرات عندما تم إسقاط اسمي من أحد الجامعات «القبول النهائي للماجستير» وجاءتها الأخبار اتصلت تبكي، يا الله ما أعظمك! حتى وأنت تعانين لم تنسينا لحظة واحدة. واستمرت في الدعاء إلى أن تيسر لي ذلك، وظلت تدعو لي طيلة مراحل الدراسة، وإعداد الرسالة حتى تخرجت، وما زالت تواصل الدعاء لكي أحقق ما أصبو إليه.
كما أذكر أنها بكت في أحد الأيام لإخراجنا قطَّة كانت تقطن عندنا وسببت لها تعباً تمثّل في حساسية مفرطة ودموع غزيرة وحكة إلا أنها بكت وأصرت إلى أن أعدناها.
كذلك إذا سمعت صوتاً قريباً، ومشابهاً لصوت أحد أبنائها المسافرين اغرورقت في دموعها.
ومرة بكت لموت طائر «ببغاء» عندنا اسمه يعقوب، ولم تهدَ إلا بعد تدخل من ابنتها التي أحضرت لها طائراً قريباً في الشكل للبغاء الذي قضى نحبه.
هي لم تكن متعلمة كأغلب النساء المولودات في تلك الحقبة، بسبب الأيديولوجيات السائدة في عصرها، إذ لا ننسى قصيدة ابن خميس- رحمه الله - الذي طالب الملك فيصل - رحمه الله - بفتح المجال للنساء لكي يحصلن على التعليم، فقال في مطلع قصيدته:
يا نصير العلم هل من شرعة
تمنع التعليم عن ذات الصبا
ومع ذلك فهي أنهت الابتدائية ولم تكمل.
وأصدقكم القول إنها كانت لنا أعظم مدرَسة، لا عفواً ليست مدرسة بل جامعة عريقة في عراقة هارفارد وأكسفورد. شربنا من نبعها صغاراً، وتعلمنا منها كباراً كيف نواجه صعوبة الحياة. هي قوية صلبة لا تزعزعها المحن والمصائب، صدقوني هي لاقت أموراً عظاماً لا يقوى على حملها أصلب الجبال لكنها تحملت وصبرت.
لن أتكلم عن المحن، فكل من يعرفها يدرك تماماً ما وقع لها.
منذ نعومة أظفاري وأنا أتعلم منها، وما زلت، فهي توجِّه وتربي، تعاقب وتكافئ، تقسو قليلاً وتحنو كثيراً، تبكي وتضحك، لله درك ما أعظمك.
صدقوني كنت أتمنى معرفة سر هذه القوة لشخصيتها المتكاملة، وما مصدرها، وهي من بيت متواضع، فهل والداها - رحمهما الله - كانا لهما اليد الطولى في هذا أم هو تركيب خاص بشخصيتها وقوة إصرارها وعزيمتها؟.
لا أبالغ إن أطلقت عليها العمود الفقري لنا، ومن دونها نكون عاجزين، تائهين.
هي أمي وحُقَّ لي أن أفخر بها وأتفاخر.
حفظها الله، وحفظ أمهاتكم أجمعين.
عذراً يا أمي فالكلمات لم ولن تنصفك مهما قلت، وتظل اللغة عاجزة، قاصرة عن ذلك.