د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت الأسبوع قبل الماضي عن إشكالية التقويم المستمر كعينة خاصة تقدم مثالا واحدا لما سأطرحه اليوم من إشكالية أكبر لأزمة التقويم التربوي في بلادنا، فهذا المجال العلمي هو أحد مجالات التربية والتعليم المتعددة كالمناهج وطرائق التدريس وعلم النفس التربوي وأصول التربية ويكاد يكون أكثرها شمولية فمن يعمل فيه ينبغي أن يلم بجميع المجالات الأخرى كما يتميز هذا المجال عن سواه بالجانب الكميQuantitative فالمتخصصون في القياس والتقويم التربوي أكثر من غيرهم استخداما للطرق الإحصائية والمعادلات والنماذج الرياضية ، وكما يصنف كثيرون علم الجغرافيا أنه ينتمي لمجالات العلوم أكثر منه للآداب فإن مجال القياس والتقويم التربوي يمكن أن ينظر إليه بنفس الطريقة لاسيما أنه في الواقع المعاش يجتذب ذوي التخصصات العلمية ويبرزون فيه وليس هذا خاصا بالمملكة بل على المستوى الدولي أيضا طبقا لمشاهداتي. وهؤلاء غالبا ما يتصدون للمفاهيم والتطبيقات الثورية في المجال التربوي فعلى المستوى العلمي تمثل النظرية الحديثة للاختبارات والمسماة نظرية استجابة الفقرة الاختبارية IRT Item Response Theory تغير ثوري في النظر إلى علامات الاختبار وطرق تفسيرها، وفي بيئتنا المحلية فإن تقديم اختبار القدرات كمفهوم علمي قد أحدث تغييرا جذريا في الممارسة الأكاديمية ووضع بصمة في الحياة الإجتماعية ، وفي بريطانيا فإن حركة الاختبارات الوطنية وتقارير أوفستد OFSTED أحدثت بعدا عميقا في جودة الخدمات التعليمية للمدارس البريطانية وقبل ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية فقد مثلت الاختبارت الموضوعية Objective Tests نقلة إلى عهد جديد ل بيداغوجيا التعليم والتعلم ، وعلى المستوى الدولي المشترك فإن اختبارات دراسة تيمس TIMSS أحدثت نشاطا تنافسيا بليغا بين الدول ، وأخيرا فإن أبرز وأحدث نظرية في التدريس وهي النظرية البنيوية للروسي ليف فيغوتسكي Lev Vigotsky تقوم دعائمها على القياس المستمر والذي أمثله بالجهاز الإلكتروني الذي يرافق المريض لقياس نبضه على الدوام فالمعلم مسهل لعملية التفاعل الاجتماعي في الفصل ويهتم بقياس مدى تجاوز المتعلم لمنطقة ZPD التي تمثل الفرق بين المعرفة التي يملكها المعلم وتلك التي يملكها المتعلم ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأسئلة الخلاقة السابرة تمثل الأداة الأساسية لهذه الطريقة التدريسية، وحيث أن تكوين هذا النمط من الأسئلة هو فن تربوي راقState of Art يدعمه علم القياس والتقويم بالدرجة الأولى فإن امتلاك المعلم له يعبر عن حذقه لاستراتيجية التدريس القائمة على هذه النظرية. كل ذلك (وغيره كثير) يوضح أهمية ودور مجال القياس والتقويم المحوري لأية محاولات تطوير أو إصلاح تربوي.
عندما تتأمل ما قدمته لك من ملامح عميقة لهذا المجال التربوي العلمي الدقيق ستشعر بخطورة وحساسية دوره المحوري في الإصلاح أو التطوير التربوي ، وهذا ما حداني إلى شيء من السرد الطويل آنفا، والنتيجة الطبيعية أن تلوح في ذهنك ثلاثة ملامح ستقرر أنها نتيجة طبعية لهذه الأهمية وبالتالي تتوقع توفرها لدينا كضرورة من ضرورات التربية: الأول هو تشجيع التعليم العالي لهذا التخصص في الدراسات العليا والثاني امتلاء الوزارة (بل كل الهيئات التعليمية الأخرى) بمتخصصي القياس والتقويم المتميزين والمتقنين للتخصص، أما الثالث «وهو الأهم» فإن آراء متخصصي القياس والتقويم يكون لها قيمة كبيرة لدى متخذي القرار خاصة لدورهم المستشرف في قيادة عملية التغيير التربوي.
يعلم كثير من المتابعين أن هذه الملامح غير متحققة مع الأسف ، وماقدمته في المقالات السابقة لأمثلة مشاريع تقويمية ضعيفة ربما يفسر شيئا من هذا الجانب لغير المطلعين. وسوف أقدم تفصيلا أكثر في الحلقة القادمة حول هذه الملامح الثلاثة لمستقبل التقويم التربوي في بلدنا العزيز.