د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** قبل الصحوة لم يكن غريبًا أن نجد مطربًا يحيي حفلةً عامةً دون أن يلقى معترضًا، وبعدها كاد بعضهم يقتحم سيارةَ بعضهم المنتظِر عند الإشارة لظنه أن صوت أغنية بلغه عبر مذياعها،واليوم عادت الأمور في اتجاه ما قبل الصحوة وإن لم يُؤذن بحفل، غير أن الاتجاه يشي بأن هذا سيحدث قريباً.
** وقبل الصحوة كان اختلاط الرجال والنساء في الأماكن العامة أمرًا معتادًا كما في الأسواق الصغيرة الضيّقة، وبعدها صار الفصل حادًا لدرجة الخوف المَرَضي وملاحقة النساء المُسنَّات بقفازات اليدين، واليوم يوشك الاختلاط وغطاء الوجه أن يكونا أمرًا اختياريًا، ومن شاء دليلًا فليرْتد الأسواق والمحافل العامة في المدن الكبرى.
** الأمثلة كثيرة دون أن يجيءَ الحديث هنا للمقارنة تقريرًا للأفضل أو الأسوأ، بل لمحاولة استقراء نواتج الصحوة التي سيطرت وتصدرت خلال أكثر من ربع قرن؛ فهل وعى منظروها: كيف ابتدأُوا وإلى أين ذهبوا وإلامَ انتهوا؟ وهل يعيدون تخليق رؤاهم بما يضمن تعرفهم على مواقع أقدامهم المقبلة.
** الأمر هنا متصل بتقويم تجاربنا الثقافية بوعي وشفافية عبر منهجٍ علميٍ ذي مسالكَ متعددةٍ؛ فمحمد عابد الجابري حين درس «التراث وتكوين وبنية العقل العربي» اعتمد طريقين نصَّ فيهما على ألا تقويم صحيحًا دون نظرة شمولية، كما لا تقويم أصيلًا من غير النظر في الجزئيات، وهو ما اختلف فيه معه طه عبدالرحمن ورأى فيه تناقضًا شرحه في كتابه المهم: «تجديد المنهج في تقويم التراث» من حيث النظرة الشمولية للتراث واعتماد وسائط تأصيلية لا نقلية، والكلام يطول حول المنهجين اللذين تبناهما اثنان من أبرز أساتذة الفلسفة العرب المعاصرين.
** ولدينا تجارب في المراجعة تستحق التأمل؛ فالحداثة التي تواجهت مع الصحوة أعلنت وفاتها بقيام نظرية ما بعد الحداثة، وتوشك هذه أن تُوارى بسيادة فوضى «ما بعد بعد الحداثة» أو «شبه الحداثة» - بتعبير البريطاني «ألان كيربي» المتزامن مع حقبة ما بعد الألفية، ولا جدل كما لا مشاحة حول المصطلحات بمقدار قراءة الاتجاهات التي تبزغ وتختفي وفق المتغيِّرات فلا يبقى إلا شيءٌ من الجذور أو البذور المكونة للنمو الثابت غير المتبدل وَفق أهواء البشر.
** في كتاب صاحبكم: «وفق التوقيت العربي؛ سيرة جيل لم يأتلف» الصادر عام 2006م شيءٌ من حكايات جيل ما قبل الصحوة، وهو ما سيجد فيها شباب العشرينيات والثلاثينيات مفارقاتٍ حين يقارنونها بما ألْفَوا عليه حياتهم فظنوه مدارًا وما كان غير مسارٍ ضمن مساراتٍ مر بها التكوين المجتمعيُّ؛ فعلت وسقطت نظرياتٌ وتنظيرات، وذوو الآفاق يستقرئون، وذوو الأنفاق يقرأون.
** المراجعة ضرورة والتراجع صحة، والواقفون في أماكنهم سيكتشفون يومًا أنهم وحيدون إلا من تهيؤاتٍ افترضوها وظلوا أوفياء لمقدماتهم عنها ونتائجهم حولها.
** التحول حياة.