اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد تطرقت في مقال سابق إلى ما يتطلع إليه الخليجيون من الانتقال من مظلة التعاون إلى قبة الاتحاد، بوصف هذا الاتحاد بقدر ما يجسد شكلاً من أشكال الانتماء القومي بقدر ما يعتبر مطلباً ملحاً نحو تمكين الدول الخليجية من تأمين أمنها وتوفير الرخاء لمواطنيها وحماية حدودها والمحافظة على وجودها، كما أن فيه ما يعزِّز دور الأمة العربية ويحفزها على استنهاض همتها وشحذ عزيمتها وتفعيل جامعتها، بغية الدفاع عن ذاتها وإحياء ما مات من قوميتها، تلك القومية التي لو أحسنت الدول العربية الاستفادة منها والعمل تحت مظلتها لخدمة الدين والدنيا، كان أحيت بذلك الأمل في أن يكون العرب القوة السادسة في المجموعة الدولية، واستطاعت بفضلها توحيد كلمتها واستعادة كرامتها، ولم يبلغ بها الحال ما بلغ بها من الذل والهوان.
ونظراً لأن الانتماء القومي يتعيّن أن يخدم الانتماء الديني ولا يتعارض معه، فإن القومية العربية في مفهومها الصحيح ومعناها السليم هي القومية المبنية على العقيدة الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام بأنه مصدر قوتها وولي نعمتها وعليه تقوم حياتها، مع اعتبار مقياس الأفضلية لأمة ما من وجهة نظر الدين، يكمن في السلوك والمنهج لا في العصبية الجاهلية والنعرة العنصرية اللتين قضى عليهما الإسلام وأوجد مكانهما تراثاً عربياً إنسانياً تشهد عليه مقومات الانتماء القومي العربي في إطاره الإنساني ومرجعيته الدينية المتمثّلة في الرسالة المحمدية، ونزول القرآن باللغة العربية ووجود المقدسات الإسلامية على أرضٍ عربية.
ومن هذا المنطلق فإن العالم الإسلامي الذي يتكون من أجناس مختلفة، يحترم العرب، ويقدس اللغة العربية، يقيناً منه بأن العرب هم قلب الإسلام النابض ومحور ارتكازه، حيث إن النبي عربي القومية والقرآن عربي اللسان والأماكن المقدسة عربية المكان، وإذا ما أحسن العرب صنعاً فإنهم جزء أصيل من الرسالة المحمدية التي وفرت لهم فكراً، ومنحتهم ذكراً وخلدت هذا الذكر دهراً، ولن يتعدى على حقهم منصف، أو يحط من قدرهم خيّر، أما إذا تجاهلوا هذه الحقيقة وانحرفوا عن المسار الصحيح فسينطبق عليهم قول الشاعر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هواناً بها كانت على الناس أهونا
ومن يحاول أن يطلق على القومية العربية وصفاً يخرجها عن عباءة الدين، ويضعها في سياق غير سياق الانتماء القومي المشروع، فهو إمّا بعثي تخلى عن دينه، وتجرد من تاريخه وقدّس البشر على حساب رب البشر، وإمّا خادم للاستعمار نتيجة لخبث نيته أو قصر نظرته، إذ إن الأمة العربية تدرك تمام الإدراك فضل الإسلام عليها، حيث أوجدها من عدم وجعل لاسمها قيمة، وأقام بها دولة وأنشأ بها حضارة، وبدونه لن يقوم لها قائمة، لأن الأمة بغير عقيدة تعتبر عدماً والعقيدة بالنسبة لها تمثّل القلب في الجسد والتيار المضيء في المصباح الكهربائي والوقود في آلة الاحتراق، كما أن الأمة العربية بفضل الإسلام استلهمت مبادئ الدين الحنيف الذي جعل من الروابط البشرية عروة وثقى، وأوجد من الإخوة في الإسلام هدفاً أسمى، ينأى بالإنسان العربي عن العنصرية القائمة على العرق والجنس واللون، وما في حكم ذلك من الطائفية والشعوبية، داعياً هذا الإنسان إلى التكيّف والتعامل مع انتماءاته الجزئية بالشكل الذي يصب لصالح الانتماء الكلي، بعيداً عن التعصب الذي يفسد الانتماء، ويجعل مردوده سلبياً وتياره عبثياً، مع الأخذ في الحسبان أن العروبة تمثّل مكونات ثقافية تُعتبر اللغة هي المكون الأهم والعامل الانتمائي الأوفر حظاً فيها، كما ورد في قول سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ليست العربية فيكم بأب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمنْ تكلم العربية فهو عربي.
وقد توجس الأعداء خيفة من الأمة العربية التي رفعت مشعل النور الإلهي وشعار الرسالة الإنسانية على نحو ما تجلّى في الفتح العربي الإسلامي، فبدأوا يتجنون على العرب، ويكيدون لهم المكائد من خلال إثارة الفتن وزرع بذور الفرقة والتشرذم، وما إن تقاعسوا عن الدين وضعفت حاسة الانتماء القومي عندهم حتى تكالب عليهم الأعداء من كل مكان، وأصبحوا غير قادرين على تحقيق أية صيغة من صيغ الوحدة أو التعاون المشترك في أي مجال من مجالات الحياة، فيكف بالمصاعب التي يصادفها مَنْ يطمح إلى الوحدة القومية والكيان الواحد، بعد أن أجهضت ذلك قرون من التجزئة والتخلف التي مرت بها الأمة العربية.
ورغم أن القطرية كانت هي إحدى الوسائل التي استخدمها أعداء الأمة لدق إسفين في جسم وحدتها، وتكريس فُرقتها فإن الانتماء القومي لا يلغي الانتماء القطري وإنما يدعمه من حيث كون الانتماء القومي أعم وأشمل، إذ يحافظ هذا الانتماء على النسيج الاجتماعي والاندماج الشعبي اللذين يرفضان الفرقة والتجزئة والانفصال، ومن ثم الربط بين الانتماءين الوطني والقومي على النحو الذي يخدم أحدهما الآخر في الاتجاهين التصاعدي والتنازلي.