د. جاسر الحربش
توجد في عالم اليوم مجتمعات لا تستطيع فيها الدولة / الحكومة التخلي عن المسؤوليات الثلاث: الأمن بشقيه الداخلي والخارجي، التعليم الأولي والمتوسط والثانوي، الصحة بشقيها العلاجي والوقائي. المتحمسون في المجتمع السعودي لخصخصة الصحة والتعليم، اعتقادا ً بأنها هي المخرج الصحيح من قصور الأداءات في هذين القطاعين يضربون لنا الأمثال ببعض الجامعات والمستشفيات الأمريكية الراقية. يقولون لك جامعة هارفارد، بيركلي، جونز هوبكنس، مايو كلينيك، لكنهم يتجاهلون ربما عمدا ً أن عددا ً كبيرا ً من المؤسسات التعليمية الخاصة في أمريكا تبيع الشهادات لمن يدفع، وأن أكثر الخدمات في القطاع الصحي الأمريكي غير مرضية. هذا هو الواقع رغم صرامة القوانين ومحاولات الدقة في الرقابة والمتابعة، فهناك دائما ً في السوق الرأسمالي الصحي والتعليمي من يتلاعب ويرشو ويرتشي مثلما في غيره من الأنشطة الرأسمالية، ويقدم تقارير وشهادات كاذبة. مثال أمريكا في خصخصة الصحة والتعليم هو القدوة الأولى لمن يدعو إلى التخصيص. لا أتذكر عدد حالات المبتعثين السعوديين الذين يمرون علي في العيادة (لا أقصد الدعاية يعلم الله) أثناء إجازتهم في السعودية للبحث عن التشخيص والعلاج لأمراض أصابتهم في أمريكا ولم يفلح المستشفى في حلها. بعض الطلبة قال لي بكل وضوح إن مستوى الطب الذي تلقاه هناك سيء.
الثناء من المرضى السعوديين الذين يسافرون إلى أمريكا للعلاج من أمراض مستعصية ثم يعودون بنتائج أفضل مما حصلوا عليها هنا، لم يحصلوا على هذه النتائج إلا لكونهم ذهبوا إلى المستشفيات الرموز في أمريكا وهي محدودة العدد، أما المواطن الأمريكي متوسط ومتدني الدخل فلا يحلم أصلا بالعلاج بأحد هذه المستشفيات.
نفس الوضع ينطبق على التعليم في أمريكا. يحرص الأهل هناك على إلحاق أطفالهم وأبنائهم في مدارس منتقاة ذات سمعة تؤهل فيما بعد للتعليم الجامعي. طاقة الاستيعاب في هذا القطاع محدودة ومكلفة، وأكثر المدارس يقدم تعليما ً لا يؤهل إلا بالصدفة المحضة للالتحاق بجامعة مرموقة. جودة التعليم في أمريكا تأتي في المرتبة السابعة عالميا ً، بينما يأتي التعليم وهو حكومي صرف في فنلندا وكوريا الجنوبية وسنغافورة في مقدمة الأفضل على مستوى العالم. المؤكد جدا ً أننا هنا في السعودية إن خصخصنا التعليم والصحة لن نستطيع توفير الرقابة الفعالة والنزيهة. لم نستطع توفير النزاهة والرقابة في صرف الأموال المرصودة للمشاريع الحيوية، والمتوقع أن لا نستطيع توفيرها في التعامل مع قوائم الفحوصات المقدمة وفواتير العلاج في القطاع الصحي المخصخص، ولا في تقييم درجات النجاح والتفوق واختيار المتميزين للدراسات العلمية الجامعية. ليس المطلوب خصخصة الصحة والتعليم وليس ذلك هو الحل، وإنما أن تتبنى الدولة نماذج عالمية ناجحة في التعليم والصحة من دول أخرى، وتتحمل مسؤولية التطبيق الذي نتذمر حتى الآن من مخرجاته.