م. خالد إبراهيم الحجي
بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت القطبية الثنائية في العالم (أمريكا والاتحاد السوفيتي) ونشأ بينهما صراع الحرب الباردة حتى تولى ريتشارد نيكسون رئاسة أمريكا، وقام وزير خارجيته السابق هنري كيسنجر بهندسة الانفتاح الأمريكي على الصين التي كانت معزولة في ذلك الوقت، وقد استغلت أمريكا هذا الانفتاح ونجحت في القضاء على قطبية الاتحاد السوفيتي وأدت إلى تَفَكُّكِهِ وانضمام بعض جمهورياته السابقة للاتحاد الأوروبي والبعض الآخر انضم إلى حلف الناتو؛ وقد انفردت أمريكا بالقطبية الأحادية بين دول العالم لقرابة عقدين من الزمان ولكن بعدها أخذ العالم يتحوّل تدريجياً إلى القطبيات الإقليمية المتعددة للأسباب التالية: الأول: تراجع النفوذ الأمريكي النسبي في العالم مع تولي أوباما رئاسة أمريكا الذي عُرف بسياسته المتميعة وعدم حزمه في بعض القضايا الدولية واعتماده على سياسة الكيل بمكيالين. الثاني: محاولة روسيا استعادة قطبيتها بين دول العالم في عهد الرئيس بوتن الذي فرض نفسه كشخصية فعالة ومؤثرة عالمياً على مسرح السياسة الدولية، وسعيه الدؤوب لتحقيق مصالح روسيا على حساب الدول الأخرى. الثالث: ظهور الصين كقوة اقتصادية ومنافستها القوية للاقتصاد الأمريكي والياباني، ومن أمثلة القطبيات الإقليمية:
(أ): البرازيل: دولة عظمى في مجال الطاقة وذات إمكانات كبيرة وتخطط وتسعى بجدية لتأكيد مكانتها الإقليمية، وتشكيل قطبية أمريكية جنوبية من خلال تصنيع وتصدير السيارات والطيارات والأسلحة المتطورة.
(ب): الهند: برزت في الآونة الأخيرة كدولة نووية قطبية قادرة على المنافسة الاقتصادية والعسكرية في شبه القارة الهندية ولاعبة أساسية في ميزان القوى الدولي.
(ج): إيران: ومحاولاتها الشريرة بأن تصبح قوة إقليمية قطبية لا يستهان بها كما عبر البيان الختامي لقمة المنامة الخليجية 2016 م عن محاولات إيران لزعزعة أمن منطقة الخليج العربي بإثارة القلاقل وإذكاء الطائفية ودعم الإرهاب بين شعوب المنطقة؛ إلا أن الدول الخليجية كانت من أوائل الدول التي أدركت قبل 37 سنة أن العالم يتجه إلى القطبيات الإقليمية؛ فأسست مجلس التعاون الخليجي تحقيقاً للاستعداد والرغبة السياسية لقادة الدول الخليجية الست لِتُكَوِّن قطباً خليجياً واحداً متكاملاً ومتماسكاً ومؤثراً في المنطقة، ويجسد نموذجاً حياً لتجمع مراكز القِوى المتحدة في منطقة الخليج أمام الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط والعالم بأسره، ويعكس القدرة على التعاون وصياغة السياسات ورسم الإستراتيجيات الإقليمية المشتركة؛ لأن دول مجلس التعاون الخليجي وهي مجتمعة تُكوِّن قطباً خليجياً متكاملاً ومتماسكاً وقويا ومؤثراً في المنطقة وبين دول العالم.. وتأسيس مجلس التعاون الخليجي تزامن وتوافق مع حاجة دول الخليج إلى تصدير الطاقة من خلال تأمين حرية الملاحة البحرية وسلامتها عبر مضيق هرمز الذي تحلم إيران بالسيطرة عليه، والتحكم فيه بعد أن استولت على الجزر الإماراتية الثلاث المشرفة عليه، وكذلك محاولتها الأخيرة السيطرة على مضيق باب المندب بوضع أقدامها وتثبيتها في اليمن من خلال دعم المخلوع صالح وقبائل الحوثي في اليمن في حربهم ضد الشرعية.. والتحالف والتعاون بين دول الإقليم الواحد أصبح مهماً جداً إلى درجة كبيرة لا تقل أهمية عن التحالفات الدولية الأخرى، إن لم يكن أكثر منها أهمية كخيار عاجل وفوري لإثبات الوجود المؤثر والفعال في المنطقة والوقوف أمام المخاطر المحدقة والتهديدات المختلفة. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف اكتشف قادة الدول الخليجية أهمية القطبيات الإقليمية؟ فدعوا إلى تكوين مجلس التعاون الخليجي في وقت مبكّر جداً قبل ظهور القطبيات الإقليمية المتعددة بسبعة وثلاثين سنة؟ والجواب يتمثل في التالي:
(1): القواسم المشتركة: مثل تقارب العادات والتقاليد وأنظمة الحكم الملكية واشتراكها في الحدود والمياه الإقليمية مع عدم وجود تضاريس طبيعية تفصلها عن بعضها البعض، وحاجتها إلى تصدير منتجات الطاقة من النفط والغاز، والظروف البيئية والمناخية والطبوغرافية الواحدة.
(2): التحرك الجماعي الموحد: لمواجهة التهديدات والمؤامرات والأخطار الخارجية التي تواجه المنطقة ومحاربة الإرهاب بجميع صوره وأشكاله والقضاء عليه. والقدرة على التحرك الإقليمي الموحد المناظر للأقاليم الأخرى في العالم؛ لأن التعامل مع الهيئات الأممية والأقطاب العالمية الكبرى يعتمد في كثير من الجوانب والقضايا العالمية على سياسات الأقطاب الإقليمية الأخرى.
(3): التأثير الدبلوماسي والسياسي: التركيز المكثف لمراكز القوى وتوحيد الاتجاهات والأهداف لتحقيق التأثير المباشر على سير الأحداث في منطقة الخليج وإقليم الشرق الأوسط والعالم، ومعالجة القضايا التي تمس دول الخليج والوصول إلى النتائج التي تفيد المنطقة.. والقطبية الخليجية لا تعني توزيع النفوذ بين دول مجلس التعاون الخليجي وإنما تعني ممارسة النفوذ الخليجي الموحد، للتأثير الفعال على المسرح الدولي.. وتنشأ الأهمية القطبية الإقليمية وتقديرها ووضعها في الحسبان بناء على العاملين التاليين:
1 -: القدرة على التماسك والتلاحم والتنمية الاقتصادية المستمرة والمحافظة على استقرار الأمن الداخلي والقدرة العسكرية الرادعة.
2 -: استقرار العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية مع الدول المجاورة في الإقليم والمنطقة ودول العالم الأخرى، والرؤية العقلانية في تشكيل الأحداث وإدارتها ومعالجة المشاكل والقضايا التي تمس الإقليم.. وعندما تتمتع كل دولة من دول الإقليم الواحد بعوامل التوازن والقوة تزيد الإقليم قوةً وتأثيراً على مستوى الأحداث الإقليمية والدولية، لذلك فإن وجود المملكة العربية السعودية داخل القطبية الخليجية يزيدها قوةً وتأثيراً؛ لأنها تمثل قلب الخليج العربي ولها مكانة خاصة عند العرب والمسلمين لوجود الحرمين الشريفين، ولها وزنها الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي بسبب موقع المملكة العربية السعودية الإستراتيجي، كما أن معالجتها لقضايا المنطقة ورؤيتها العقلانية للشؤون العربية والإسلامية عزز مكانتها السياسية في منطقة الخليج والشرق الأوسط وبين دول العالم .