د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لا تنظر الدول المتقدمة للفن على أنه ترف بل على أنه حاجة مجتمعية، وثقافية، واقتصادية لتثقيف الأفراد، وتثقيف الأجيال. وتواكب الحركة الفنية التطور الفكري والاقتصادي للمجتمع. وكلما تحضر المجتمع وزادت درجة وعيه العلمية والأدبية أدرك قيمة الفن، وتعمق في معرفته والمجتمع الذي يحترم القيم الإنسانية يحترم الفن، ولو تخيلنا مجتمع بلا فن فسيكون مجتمعاً لا طعم له ولا لون ولا رائحة.
فالفن ضروري لتهذيب النفوس، وإرهاف الحس الإنساني، ودعم التفاعل البشري. والفن من أهم أسلحة الحضارة البشرية ضد التطرف والحروب بما فيها الإرهاب الفردي والدولي. ويأتي الفنانون عادة في مقدمة الشرائح المجتمعية التي تدافع عن القيم الإنسانية. والقيم الفنية لأمة ما، بشهادة معظم المفكرين، تجسد أهم قيمها الإنسانية وتعكس أرقي جوانبها الحضارية. وليس هناك في التاريخ أمم بدون فن، بل أن كثير من الأمم فنيت وبقيت لنا فنونها. واهتمام الحضارات بالفن بدأ منذ بدء الخليقة وبشكل تلقائي.
وبينما أدرك غيرنا، من الشعوب المتقدمة، الحقيقة البديهية في أن الفن ضرورة من ضرورات الحياة، لا زال البعض منا وللأسف ينظر إلى الفن على أنه ترف لا حاجة له، وزخرفة زائدة لا قيمة واقعية لها. وهذا ما يعكسه مدى الدعم الذي يلقاه الفن في مجتمعنا. وللفن قيمة اقتصادية كبيرة جداً، وهناك دول تعتبر تصدير الأعمال الفنية، أو إضافة القيمة الفنية لمنتجاتها من أهم جوانب صادراتها، سواء كانت هذه الفنون مرئية، أو سمعية، أو تشكيلية. وهناك أعمال فنية بيعت بمئات ملايين الدولارات لأن من يشترونها يعرفون القيمة الحقيقة لاستثمارها. ولا توجد صناعة، أو عمارة، أو ثقافة بلا فن.
والمحزن حقاً هو أننا ندعم الرياضة مثلاً بمئات ملايين الريالات بحثاً عن تحقيق إنجازات تعزز به مكانتنا الدولية، وندعم الإعلام الرياضي بأموال مماثلة بينما لا يجد الفن والفنانون لدينا من الدعم ما يساعدهم على الاستمرار في إبداعهم. والأكثر حزناً هو أن الكثير من الأعمال الفنية الجميلة والقيّمة التي أبدعها فنانونا، والتي تحمل تراثنا الفكري والجمالي هي عرضة للإهمال والتلف إما في الشوارع، أو على جدران بعض المباني الحكومية، أو لدى أشخاص لا يعرفون قيمتها الحقيقية.
ونحن نفتخر بالتقدم العمراني الذي حققناه، ونفتخر بأن لدينا بعضاً من أكبر مطارات العالم، وأوسع طرقه، ولدينا شركات عالمية كبرى، وبنوك مصنفة عالمياً.. ولدينا أقوى وأجمل خيول العالم، وأجمل سياراته، وأفخم طائراته، وأكبر يخوته، غير أننا، ويا للعجب، لا نملك ولو متحفاً صغيراً للفنون الجميلة، وما زال معظم فنانينا يعملون في الصباح ليعيشوا ويرسموا في المساء لإشباع إبداعهم الفني، مع أننا نعاني من بطالة وزيادة في الموظفين.
ولو تكلمنا بصراحة أكبر، فهناك مجالات كثيرة يمكن أن يساهم فيها الخيرون في بلادنا غير المجالات الصحية، والرياضية، والدينية وهي بناء متحف وطني للفنون الجميلة يحفظ تراث هذه الأمة الجمالي والفني من الضياع والاندثار. وهناك فرصة ذهبية للبنوك لمصالحة المواطنين الغاضبين من خسائر الاستثمار والقروض، ولدفع تهمة التقصير بالمساهمة في التنمية الوطنية، وهي أن تتبنّي بناء متحف لائق لفنوننا الجميلة يدعم المبدعين في هذه المجالات ويشجعهم باقتناء أعمالهم، والحفاظ عليها. وهي بلا شك قادرة على ذلك، وفيه خير دعاية لها. فالقادم لبلد ما يبحث أولاً عن متاحف البلاد التي يزورها، ليتعرف على تراث أهلها وثقافتهم من خلال مقتنياتهم الفنية، ولكننا وللأسف لا نعير ذلك اهتماماً والسبب في ذلك هو أن الوعي بأهمية الفن يتطلب ثقافة فكرية متطورة، وحساً فنياً عالياً لا يمكن أن يوفره مستشارون أو خبراء نحيط أنفسنا بهم أو نطلب رأيهم وتوجيههم، بل يتطلب إدراكاً متقدماً، وثقافة رفيعة خاصة. هذه الثقافة هي التي تدفع للاهتمام بالمتاحف، وهي التي تدفع بشكل جدلي لتطور هذه الثقافة. وعندما تزور بعض المتاحف تجد أن معظم رواده من طلاب المدارس، أو المتدربين كما أن الدول تدفع مبالغ طائلة لاستضافة معارض فنية، أو الحصول على حق عرض بعض الأعمال الفنية العامة ليس لأنها تعد ذلك ترفاً بل لأنها تراه نشاطاً ضرورياً. والجهل والثقافة الضحلة هما العدوان البارزان للفن.. فالفن هو أرقى مراحل التراث الفكري. والمتاحف هي المؤسسات التي تعنى بتنمية هذا الجانب.