الجزيرة - أحمد المغلوث:
عصر يوم لا ينسى وكنت يومها فتى ألعب الكرة على بعد مسافة قصيرة من منزلنا على الشارع الرئيس بمدينة المبرز. وكنا مجموعة الفريق قد قمنا بإعداد ساحة الملعب مبكرا والذي كان يقع جنوب مزرعة (العازمية) وبجوار برج كهرباء ذي الضغط العالي! وكان مركزي في الفريق «الحارس» ربما لكوني طويل القامة اختارني المشرف لأقوم بهذه المهمة والتي تقع عليها مسئولية كبرى، فدائما تتجه الانظار للحارس بالإعجاب والتقدير كلما استطاع ان يصد كرة منطلقة في اتجاه العارضة بهدف تسجيل «هدف».
بدأ الشوط الثاني من المباراة التي جرت بيننا وبين فريق من (حي) القلعة وكان هذا الحي يقع بجوار منطقة السوق وسط المدينة.. وسارت دقائق المباراة على خير ما يرام، والنتيجة في البداية لم تكن في صالحنا حيث كان احد لاعبي فريق «القلعة» يمتاز بالدقة والخفة والمراوغة وكانت الكرة بين قدميه مطواعة سلسة يحسبها المشاهد انها ملتصقة بقدمه خصوصا اليمنى، كأنه «ميسي» هذه الايام، وعلى الرغم من قلقي وخوفي ووجلي من ان يأتي هدف منه او من غيره من لاعبي فريقهم «القلعة» الا أنني كنت واعيا ومتابعا للكرة، ومع هذا ورغم هذا فشل دفاعنا في الحد من هجومهم واقتحامهم للمنطقة المجاورة للعارضة التي احرسها، فإذا بالكرة تدخل المرمى أكثر من مرة ولا حول لي ولا قوة في صدها.
واستمر دفاعنا تحت انظار ومتابعة لاعبينا وحتى المشاهدين من المشجعين من فريقنا والفريق المنافس.. واشرأبت العيون وهي تتابع بشغف احداث المباراة التي باتت شيقة وحماسية، عندما حدث خطأ ما وفي منطقة «السنتر» تقرر ان يسدد الكرة احد لاعبي الفريق المنافس في اتجاه «العارضة « المرمى الذي احرسه، وانطلقت الكرة لتعلو وتعلو وتقع فوق برج الكهرباء وسط دهشتنا وبعد ذلك حيرتنا جميعا، كيف ارتفعت الكرة؟ وكيف وصلت الى قمة البرج؟ والذي كان برجا عاليا جدا لا يشبهه في ارتفاعه الا برج السكة الحديد في محطة الهفوف الذي كان يعتبر احد معالم المحطة الشهيرة.
مرت لحظات ونحن نفكر كيف نجلب الكرة من اعلى البرج، راح بعضنا يقذف عليها الاحجار لكن دون جدوى، لقد سقطت بين الاسلاك في الاعلى، حتى ان احدنا وكان مشهورا بلعبه «بالنبالة» وصيده للعصافير، لم يتردد ان وجه اليها اكثر من رمية لكن لم تحركها.! فجأة ركض احد لاعبينا «عبد العزيز» رحمه الله وكان أسمر واضمر من السيف، ركض في اتجاه البرج وراح يتسلقه بخفة «الرجل العنكبوت» الفرنسي الشهير هذه الايام، وما هي الا لحظات وإذا به اعلى البرج وهو يشير الينا قائلا بصوت عال «خذوها». ولحظة مد يده اليمنى ليمسك بالكرة إذا به يصرخ وأضواء الكهرباء من كهرباء الضغط العالي تومض بنور كالبرق مع اهتزاز زميلنا وإذا به يسقط من اعلى البرج.. لتتحول يده الى لون متفحم.
وركضنا جميعا الى الجسم المقذوف وانحنينا عليه ونحن نبكي ونصرخ، وسبحان الله كان ما زال يتنفس وزبد ورائحة غريبة اشبه برائحة الحريق ينبعث من فمه وحتى اذنيه وكان الاثر البشع للصاعقة الكهربائية التي تلقاها واضحاً على جانب من رأسه.. ومن حسن الحظ كانت سيارة والدي «الوانيت الفورد» بجوار منزلنا عندما ركضنا انا وأحد اللاعبين ونحن نبكي واخبرنا والدي بما حدث، عندها اركبنا معه واتجهنا حيث وقع الحادث وتم نقله الى مستشفى المبرز وكان ايامها مستشفى، حيث اجريت له الاسعافات، وتمت عملية بتر يده المصابة والمتفحمة من الكتف.. وجلس (نيسه) وهذه هو اسم الشهرة فترة طويلة في المستشفى، وبعدما تعافى بتنا نراه في بعض المناسبات والأعياد بثيابه الناصعة البياض تعلوه ابتسامة دائمة، ولسان حاله يردد «الحمد لله عدت للحياة»، نفس الكلمات كان يرددها علينا نحن اعضاء الفريق عندما كنا نزوره في المستشفى.. الفريق الذي كان شاهدا على مبادرته السريعة لإحضار الكرة من اعلى البرج.
وأذكر مرة أنني سألته بعد تردد: لماذا تسرعت وصعدت البرج؟. أجاب باسما وساخرا من نفسه: حتى اكون كما تراني «اكتع». رحم الله عبدالعزيز كان فتى شهماً.