عبد الله باخشوين
نحن العرب -بشكل عام- لدينا طرق ((ملتبسة)) للتعبير عن ((مشاعرنا)).. تتناقض مع أساليب ((أهل الغرب)) من الشعوب الأخرى.. الذين نجدهم -في كل ما نرى- يعبرون عن مشاعر ((الحب)) بطرق بسيطة شديدة الوضوح.. وخالية من الكذب أيضا فتجد الأب -مثلاً- يقول لزوجته وابنة وابنته ومن يحب باختصار يتمثل في عبارة واحدة:
- أنا أحبك..!
ويأتيه الرد أكثر بساطة:
- وأنا أيضاً..!
دون ((كذب)) أو زيف.
أما نحن العرب.. فمن يتجرأ ويقول لك:
- أنا أحبك..!
فهو إنسان بعبارته تلك يثير فيك مشاعر ((الشك)) والريبة.. لأن مشاعر الحب لدينا يجب أن يدركها ((الآخر)) دون ((كلام)).. يجب أن تصل إليه بفعل ذلك التيار الخفي الذي بثته مشاعر.. وهي تصل دائماً صادقة واضحة.. يعرف ((مستقبلها
-منك- أحاسيس وعواطف أقوى وأكبر من كلمة: ((أنا أحبك)).
وعندما كنا صغاراً لا يجد -الواحد فينا- فرصة لاكتشاف مشاعر والدة تجاهه إلا حين يمرض.. لأن ((الوالد)) لحظتها لا يستطيع أن يقاوم عاطفة المحبة التي تغلبه فيستسلم لها بطرق شتى منها أن ((يقبلك)) لكنك تجد ما هو أروع وأشد عاطفة من ((القبلة)) في لمسات يده وهو يتحسس جبهتك.. ويمررها على عنقك وصدرك ليقيس مدى ارتفاع ((درجة حرارتك)).
وأنا شخصياً لا أذكر أن أبي طبع قبلة على خدي إلا وهو يودعني أنا وأولادي حين ذهبنا للسلام عليه في طريق عودتنا لأبي عريش.. فقد انتظر حتى أغلقت باب السيارة ومد رأسه داخل الشباك وطبع على خدي قبلة عصبية طويلة.. ثم اتجه للشباك الآخر حيث تجلس زوجتي وطبع على خدها قبلة ويعدها بأنه سيأتي إلينا وطلب أن تنتظر في يوم محدد لكنه ((رحل)) قبل يوم واحد من الموعد الذي حدده.
أما أمي فقد كان فيض حنانها لا يحتاج وصوله إلى العواطف التي تغدقها على ((الأطفال)) وكنت أراها تحتضن أبنائي وتقبلهم ولم أشعر بحاجتي لمثل ذلك الأسلوب في التعبير عن العواطف.. ولا أعتقد أنها عاملتني بمثله وأنا طفل.. أما وأنا كبير فقد كان أقصى ما كنت أتمناه.. هو أن أضع رأسي على حجرها.. وتمرر يدها على رأسي وهي مشغولة عن نفسها وعني و... وأموت.
وما زلت أظن إن هذه لحظة تمثل منتهى الرأفة من الرب الرحيم العظيم ومنتهى السعادة للمخلوق الضعيف الذي يكتب له سبحانه الموت ورأسه مسنوداً لحجر أمة.. لكني كنت أجلس بجوار السرير.. قبل رحيلها بنحو شهر.. وعندما تدلت رجلها أخذتها وقبلت باطنها.. ضحكت في وجهي وقالت: ((مشكور يا حبيبي)).. ثم سرحت بعيداً وأخذت تقول: - ((شبنا وشاب العارضي من كثر خلاف السنين)).
عندها أدركت أنها قد هيأت نفسها للسفر إلى حيث يعلم الله.. وأخذت أبحث في كل الكلام عن كلمة تعبر عن حجم محبتي لها.. لكني لم أجد.