د.عبدالله البريدي
ألا يلفت نظركم تكاثر الصيدليات في مدننا وقرانا؟ في كل يوم تنبت عشرات الصيدليات وتتناثر حتى في الشوارع الفرعية والأزقة القصية. تتزاحم في الشارع الواحد، وتكبر أحجامها، وتتنوع بضائعها. أعدادها وأحجامها ومبيعاتها مخيفة جداً وباعثة على القلق أو التساؤل على الأقل. أليس كذلك؟! كثرتها تشعرني دائماً بأننا صرنا في قبضة المرض أو على مرمى من توهم بالمرض، وهذا أخطر. بات السعوديون يلتهمون الأدوية كما لو كانت أغذية. أضحى الصيدلي في السعودية طبيباً؛ يصرف أكثر الأدوية بمجرد الاستماع للشكوى من المشتري، عفواً المريض أو قريب المريض. هل هذه ظاهرة جيدة؟ أنا أطالب معالي وزير الصحة الدكتور توفيق الربيعة بالتعليق على هذه المسألة، وماذا يمكن للوزارة أن تفعله؟
حديثي الأخطر عن فوضى صرف المضادات الحيوية، سواء إذا كان ذلك من قبل الأطباء في المشافي الحكومية والخاصة، أو من قبل الصيادلة، فالمضادات الحيوية لا يقيد صرفها بوصفة طبية، في ظل غياب تام لنظام طبي صارم في هذا الاتجاه، مما يجعلنا نستهلك كميات هائلة من المضادات الحيوية، فدمرنا صحة الأطفال والصغار والكبار. نفعل ذلك بلا وعي، وببلاهة لا نحسد عليها.
في بريطانيا -على سبيل المثال- نظام طبي يمنع الأطباء من صرف المضادات الحيوية إلا في أضيق نطاق، ولا يمكن شراء هذه المضادات من الصيدليات بدون وصفة طبية معتمدة. وهنا نتساءل: لماذا نترك حبل المضادات على غارب تجار الأدوية؟ لماذا نجعلهم يتكسبون على حساب صحتنا؟ هل ثمة أطراف تستفيد من هذه الفوضى في صرف المضادات وفي استهلاكها غير المبرر؟!
ليس سراً أن شركات الأدوية سخية جداً في صرف العمولات لمن يروج بضاعتها وتصل العمولات لعشرات وربما مئات الملايين في السعودية (انظر مثلاً: السعودية.. شركات الأدوية تملأ جيوب الصيادلة بـ90 مليون ريال سنوياً لتسويق منتجاتها، العربية نت، 30-9-2011). مؤخراً، صرح قيادي كبير في وزارة الصحة بأن ثمة علاقة مشبوهة بين شركات الأدوية والأطباء والصيادية، حيث ذكر نائب وزير الصحة حمد الضويلع ما نصه: «إن حضور الأطباء والصيادلة مؤتمرات خارجية عن طريق شركات الأدوية لم يكن من دون مقابل»، في إشارة إلى تقديمهم تنازلات لتسويق منتجات تلك الشركات. وأكد أن وزارة الصحة أبلغت الشركات الـ12 العاملة في مجال تصنيع الأدوية في السعودية بعدم سماحها بهذه الممارسات التي يرى فيها شبهة (المصدر: جدل حول «علاقة مشبوهة» لشركات الأدوية بالأطباء والصيادلة، صحيفة الحياة، 8-2-2016).
وفي اتجاه معزز لما سبق، أقر المدير التنفيذي للتراخيص بقطاع الدواء في الهيئة العامة للغذاء والدواء الدكتور هاجد بن محمد بن هاجد بوجود فساد، حيث أشار -وفق صحيفة الوطن- إلى أن ثمة «أطباء يتسلمون من الشركات نسبة معينة من قيمة الأدوية، التي يصرفونها للمرضى، واصفا القضية بـ»الحساسة»، إلا أنها موجودة ولا أحد يستطيع أن ينكرها» (الصحة تسمي ثغرات الفساد، الوطن، 8-2-2016).
لا يمكن لي أن أتفهم سر تلكؤ وزارة الصحة في العقود الماضية عن تأطير استخدام المضادات الحيوية في البلد، وعن بواعث عدم وجود إطار نظامي محكم لتنظيم ممارسات صرفها، بشكل حازم، وبما يحافظ على صحة الناس في المقام الأول، وعلى جيوبهم في المقام الثاني. مع الإشارة إلى أن أموالاً عامة طائلة تصرف على المضادات في المشافي الحكومية، وقد شددت رؤية 2030 على مسار الترشيد في الإنفاق، مما يجعل هذه الممارسات الحالية غير مقبولة، جملة وتفصيلاً، إن في الصحة أو في المال.
إذن، لا يمكن لنا البتة الاقتناع بأن ثمة سبباً مقنعاً يحول دون صدور تنظيم دقيق وصارم من وزارة الصحة بشأن المضادات الحيوية. وهذا التنظيم في رأيي يتأسس على مبدأين كبيرين:
الأول: التشديد على الأطباء في المشافي الحكومية والخاصة كافة بعدم التوسع في صرف المضادات إلا في الحالات الضرورية، وفق دليل إرشادي (بروتوكول) طبي دقيق.
الثاني: المنع التام للصيدليات كافة حيال صرف المضادات الحيوية (وبقية الأدوية الخطيرة الأخرى) إلا بوصفات طبية معتمدة، مع إيقاع عقوبات زاجرة على المخالفين كافة، تصل للإغلاق والغرامات المالية الكبيرة.
هذا التنظيم الحاسم نحتاج إليه بشكل عاجل، فالقضية واضحة تماماً، ونحن لا نحتاج إلى اختراع العجلة مرة أخرى، فالتنظيمات والممارسات الدولية الجيدة معروفة، والخبراء قادرون على الصياغة لهذا التنظيم، بشكل متقن وسريع. ولست أستبعد وجود مشروعات أو مسوّدات مقترحة من قبل خبراء ومسؤولين في سنوات سابقة، بل هذا هو الأقرب عندي.
وجانب آخر منتظر من وزارة الصحة، وهو البعد التوعوي. أنا أدرك بأن ثمة جهوداً مشكورة في مسارات كثيرة. بيد أنه يتوجب أن تكون توعيتنا أفضل وأذكى في إيصال الرسالة، كالمقطع الذي أنتجته الوزارة وبثته في اليوتيوب في 19 نوفمبر 2016، وهو يحكي بقالب إبداعي خطورة مرض السكري، عبر تجسيد شخصية مرض السكري (انظر اليوتيوب بعنوان: لأول مرة.. السكري يتحدث). حصد هذا المقطع قرابة مليون و200 ألف في أقل من أسبوعين. أحسنتم يا وزارة الصحة، هذا ما نحتاج إليه بالفعل.
وفي سياق التوعية، ربما لا يدرك البعض أن المضادات الحيوية تصلح فقط في حالة الإصابة بالمرض الذي يكون مصدر بكتيريا، أما الأمراض الفيروسية -وهي كثيرة جداً- فلا يصلح لها بتاتاً المضاد الحيوي، بل على العكس، حيث تتضرر صحة الإنسان كثيراً من جراء الإفراط في استخدام المضادات، حيث يُضعِف ذلك المناعة، ويفقد الإنسان مع الوقت القدرة على استخدام بعض المضادات في المستقبل، أي عندما يكون محتاجاً لها لا ينتفع منها. التوعية بمثل هذه المعلومة الأساسية، يمكن أن تقنع كثيرين في التريث عند التفكير في استخدام مضادات حيوية.
آمل من معالي وزير الصحة الرد على هذا المقال ببشرى يزفها لنا بقرب صدور التنظيم الصارم للمضادات الحيوية وللأدوية الخطيرة كافة، بجانب تنظيم تأسيس الصيدليات ودراسة عوامل الإقبال عليها، وجعل الممارسات الشعبية أكثر رشداً وعقلانية.
صحتنا -دكتور توفيق- تستحق، أليس كذلك؟ وأموالنا الخاصة والعامة يجب أن تصان وتصرف في مواطنها الصحيحة، بلا تقتير ولا إسراف. سأكون متفائلاً بمعالجة سريعة حاسمة شاملة، انطلاقاً من ثقتي بأن الوزير الجديد الدكتور توفيق الربيعة سيحقق ما عجز عنه وزراء الصحة السلف.