د.عبد الرحمن الحبيب
تخفيضات نهاية هذه السنة صاحبها ظواهر غريبة: الناس تتزاحم بهيجان للدخول في المتاجر مع افتتاحها متدافعين كأنه ماراثون.. مشاهد عجيبة لا تدري صدقها من زيفها، مثل فيديو لطفلة نائمة على طاولة المحاسبة بإحدى الأسواق، تركتها والدتها وانطلقت في هيجان سباق الشراء!.
ما هذا الجنون؟ إنها حيلة إعلانية تلعب بغرائزنا التي ينتابها شعور بالخوف من إضاعة الفرصة بالفوز في جو تنافسي مع الآخرين المندفعين لشراء سلعة رخيصة. المفارقة هنا أن السلعة قد لا تكون رخيصة بل قد لا نستخدمها.. فلماذا كل هذا العناء و»البهذلة»؟ إنها ليست عناء للبعض بل إثارة ومتعة عظيمة.. فمن أين تأتي هذه الظاهرة وما مخاطرها، وعلاجها؟
يذكر علماء النفس والأعصاب، أنه خلال تلك التخفيضات، يسيطر جهاز التنبيه اللاإرادي في الجسم (وهو الجهاز الذي يثير استجابة الكر والفر الغريزية لدينا) على بعض أجهزة الجسم الأخرى بشكل غريزي، مما يُحدث استجابة زائدة لدينا تشبه التي كانت لدى البشر الأوائل قديماً عندما كانوا يواجهون الحيوانات المفترسة، وفقا لكيت يارو، مؤلفة كتاب «فك رموز العقل الجديد للمستهلك».
لكن إذا كانت الغريزة عند الأوائل ضرورة للبقاء، فهي هنا استجابة لا إرادية لمسألة غير ضرورية بل مصطنعة. فحسب كونيونغ أوه المتخصصة في التسويق العصبي الذي يتعقب سلوك المستهلك من خلال شبكة الأعصاب، فإن قرار الشراء يحدث في جزء من الثانية يصعب معه التفكير العقلاني؛ وخلال الاندفاع للشراء، يحدث ارتفاع في الموجات الدماغية يؤدي إلى «الانخراط العاطفي» في تقييم منتج معين، وغالباً ما تُتخذ لا شعوريا بسبب تركيبة الدماغ البشري.. (ألينا ديزيك، بي بي سي).
هنا، تتحفز لديك الرغبة في التسوق عند دخول متجرك المفضل أو موقعك المفضل للتسوق بالإنترنت، فيبدأ جسمك بإفراز كميات أكبر من مادة الدوبامين، وهي ناقل عصبي في الدماغ يجعلك تشعر بالارتياح والنشوة لمواصلة التسوق والبحث عن المكافأة.. ومعظم ما يحدث بعد ذلك يخرج عن إطار اتخاذ القرار العقلاني الذي نتبعه عادة في العمل أو بقية أمور حياتنا، حسب الباحث دارين بريدجر.
أما إذا تفاقمت هذه الحالة عند الفرد، فإنه عرض لإدمان التسوق (أونيومانيا) أو التسوق القهري، أي رغبة نفسية غير عقلانية لا يمكن مقاومتها للتسوق. بعض المختصين يعتبره مرض نفسي نتيجة الاضطراب وعدم السيطرة على الاندفاع للتسوق والشراء. هذا الإدمان مثل أي إدمان آخر كالإدمان على الأكل أو الكحول أو المخدرات؛ فعلى سبيل المثال: وصف حوالي ثلث المتسوقين القهريين أن فعل الشراء نفسه يعطي نشوة تماماً كالمخدرات (دراسة هيلجا ديتمار، 2004).
بطبيعة الحال، ليس كل المتسوقين سواء، فهناك من يذهب للتسوق من أجل الراحة والاسترخاء والهروب من المشاكل اليومية، وهناك من يتسوق ولا يشتري بل يتفرج.. لكنها يمكن أن تصبح عادة يصعب التوقف عنها بنفس الطريقة التي تجعل من الصعب على البعض التحرر من اضطرابات الإدمان، كما تقول أنجيلا ورتزل المتخصصة في اضطرابات التسوق القهري. فكثير منا يعتقد أنه بمنأى عن هذا المرض.. لكن ورتزل تنبهك: أنك لن تدرك ذلك لأن التغيرات التي يمكن ملاحظتها مثل سرعة دقات القلب أو التوتر، قد لا تظهر بل يمكن الكشف عنها من خلال الموجات الدماغية كما تقول أوه.
الظاهرة أصبحت مشكلة عالمية في زمن عولمة تتصاعد فيها ثقافة الاستهلاك خاصة في المجتمعات الرأسمالية المشجعة لخلق حاجات مصطنعة لشرائها عبر الإعلانات المغرية في التلفزة والإنترنت.. ثقافة تقول لك: إن لم تتسوق فأنت متخلف! إن لم تشتر فأنت الخاسر! فضلاً عن توفر بطاقة الائتمان التي تمنحك فرصة الشراء حتى لو كنت مفلسا.. ففي أمريكا تصل نسبة المشترين القهريين إلى حوالي 9 % من السكان (ريدجواي، وآخرون، 2008).
يعتقد الأطباء النفسيون أن هذا السلوك القهري قد يكون سببه الحاجة للشعور بالتميز أو تحقيق هوية ذاتية أو البحث عن الإثارة أو لمحاربة الشعور بالوحدة أو لطرد القلق والإحباط. وإذا كان المتسوقون القهريون يأملون بأن التسوق سيغيرهم نحو الأفضل، فإنه لا يفي بذلك، وبالتالي قد يتصاعد سلوكهم نحو الأسوأ بمزيد من التسوق مع شعور بالذنب بعد كل عملية شراء (باميلا كلافك 2004). في اللحظة التي نقرر فيها الشراء، نشعر بالراحة وتتدفق المشاعر الإيجابية لدينا، لكن بعدها، وعلى غرار المدمنين، تتنامى المشاعر العميقة بالذنب بعد الانغماس في الشراء، ويكون من الصعب التعافي، وفقا لكيت يارو. أحيانا نقول لأنفسنا: نحتاج للمزيد، ونعود لمزيد من التسوق والشراء.. وفي الحالات المرضية تكون النتائج مدمرة على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى الأسري..
ما هو العلاج؟ قبل دخولك للمحل أو للموقع بالإنترنت، وقبل قراءتك لإعلانات التخفيض، اسأل نفسك أولاً عن السلعة: هل تحتاجها؟ هل ستستخدمها، هل لديك بديل لها يغنيك عنها؟ حاول أن تتفادى تفاصيل قراءة عروض التخفيضات الكبرى (فهي مغرية خادعة)، ما لم تكن لك حاجة فعلية لشراء المنتج المُعلن.. تقول أوه: «عليك أن تهدئ نفسك، وأن تكون منطقياً بشأن الموضوع بأكمله.. وتذكر أن ندم المشترين يتبع التسوق الإدماني..»